مما كشفه تحذير الشيخ القرضاوي للأمة من التغلغل الإيراني الشيعي في مجتمعاتها هو حجم اللوبي الذي تتمتع به إيران داخل الإعلام العربي وجاهزيته للذود عنها في ساعة الصفر.
في اللحظة التي أطلق فيها الشيخ القرضاوي تحذيره، انبرت ألسن وأقلام وفضائيات وصبت حممها في فعالية تناسقت فيها الذرائع والتهم. الذائدون عن حرمات إيران كانوا أشبه بالشرطة السرية التي تتجول في الأسواق والأماكن العامة بثياب مدنية، حتى إذا ما طرأ طارئ ظهرت بزيها القتالي وفاجأت الناس بأعدادها ومواضع انتشارها.
المشهد كان أشبه بعملية تعبئة عامة ودعوة للاحتياط. فهذه فضائيات لندن تنظم ندوات على عجل وتستضيف عرباً متفرسين وفرساً مستعربين، وذاك معهد عربي بتمويل إيراني يستنكر التحذير، وتلك منظمة جديدة لم يسمع أحد بها ـ ربما تشكلت بعد الزلزال ـ تعمم بياناً مناهضاً. في القاهرة يعلو صوت ينعت أهل السنة بالفاشية، وآخر بالطائفية، وثالث يدعو إلى عقد مؤتمر طارئ في بيروت. وفي فلسطين ترفع حماس رسالة الى مرشد الثورة الإيرانية والرئيس الإيراني تتضرع فيها الى الله أن يحفظهما ويرزقهما صلاة الخلاص في بيت المقدس، وتشيد "بالإمام" الخميني الذي رفع مكانة الجهاد لتحرير القدس وفلسطين، وفي طهران تقرأ رسالة حماس في صلاة الجمعة.
ما الذي يحمل باحثاً متميزاً على الخروج من سَمْته العلمي إلى مجال لا يملك أدواته وتسويد مقال خال من أي قيمة علمية يشتم فيه أهل السنة بالفاشية؟ وما الذي يحمل آخراً على مخاطبة العامة خطاباً تدليسياً ويعيد تأهيل معتقدات شيعية ضالة دحضت على الفضائيات بأسلوب شيّق ووضعها الناس في سلة مهملاتهم الفكرية؟ ما الذي يحمل ثالثاً على وضع أوسمة ماريشالية على صدر إيران وأتباعها واعتبار انتقادها كفراً استراتيجياً وإرباكاً لأولويات الصراع؟
ما الذي يحمل هؤلاء على أن يكونوا أوتاداً في الخيمة الإيرانية في وقت تعصف بها فضائح الاتصالات السرية مع إسرائيل وأمريكا؟ ما الذي يحملهم على أن يكونوا ورقة توت لها، وقد كشفت عن سوءتها وجهرت ببغائها مع أمريكا في أفغانستان والعراق؟ ما الذي يحملهم على تنزيه التشيّع عن معتقدات تكفيرية وكفرية تدس الأحقاد وتمزق المجتمعات، لا ينفيها الشيعة أنفسهم ويصدعون بها على الفضائيات .
بأي وازع يتحرك هؤلاء؟ ماذا يريدون؟ بماذا يعود عليهم هذا الجهد؟ هل هم محتسبون؟
اختلال الرسالة الإعلامية التي يصيغها هذا اللوبي وصل مستويات غير مسبوقة، فالذود عن حياض إيران والتشيّع وليونة العبارة يقابله سطوة لسان وإسفاف في الألفاظ وحرب على "السلفيين " أو "الوهابيين" أو "الوهابيون"، وجميعها مفردات في القاموس السياسي الإيراني والشيعي لها دلالاتها.
مجتمعاتنا باتت تحت تأثيرات هذه الرسالة؛ جامعاتها، معاهدها، صحفها، دور النشر فيها، ندواتها التلفزيونية والإذاعية، لم تعد تستقبل دراسات وبحوث عن الشيعة والتشيع على اعتبار أنها إثارة للفتنة الطائفية. ما يفاقم من هذه التأثيرات هو سمة التعفف الطائفي عند الأغلبيات بشكل عام ـ أهل السنة في هذه الحالة ـ ونظرتهم إلى المصلحة العامة، ومن ذلك خيار الدهس على حقوقها ثمناً لنجاة المجتمع. المحصلة هي السير بخطى منتظمة صوب التصفيد والتكميم الفكري للمجتمع.
لا يظهر أننا بعيدون كثيراً عن تشريعات قانونية تجعل تناول المشكلة الشيعية جرماً يعاقب عليه القانون. سن هذه القوانين يصبح مسألة وقت عندما يسبقها استعداد نفسي وثقافي وآيديولوجي وسلوكي، وهو عين ما يحدث في الجامعات ودور النشر والصحافة التي تصد عن المشكلة لا بقرارات رسمية ولكن بدوافع ذاتية، وهي بحكم المرحلة الانتقالية.
الصورة النهائية لهذه المرحلة الانتقالية، هو ما نراه قائماً بين المجتمعات الأوربية والصهيونية. فالإنكليزي أو الفرنسي أو الألماني يمكن أن يشتم نفسه، وملكته، وكنيسته، وتاريخه، وطباعه، وفلكلوره ولا ضير عليه، ولكن عندما يمس مؤرخ غربي المحرقة اليهودية أو السامية فإن الرد لا يأتي من إسرائيل أو الوكالة اليهودية العالمية، وإنما ينتفض المجتمع بمؤرخيه وإعلامييه وأكاديميه ويكون مضماراً لردع المسيء، بكلمة أو قصيدة أو أغنية، كل من موقعه، وهي الرقابة الذاتية والتكبيل الآيديولوجي للمجتمع في أقسى صوره.
في هذه الأجواء التي جاءت بعد الحرب العالمية الثانية ولدت الرقابة الذاتية، وتبعها التأطير الآيديولوجي للرقابة، فالاستعداد النفسي لتشريعات عقابية، فقوانين تعزيرية لمعاداة السامية والهولوكوست. المهم هنا هو أن اليهود أنفسهم ليسوا أعضاءً في لجان التشريعات التعزيرية وإنما يشرّع المواطن الغربي ما يعزر به نفسه. ثم جاء التغليف الديني للتعزير الآيديولوجي بتبرئة الفاتيكان لليهود من دم المسيح (باعتقادهم) وإقفال ملف الخصومة من طرف واحد، وهو ما يفعله اللوبي الإيراني من طرف واحد مع الشيعة.
هكذا أصبح في المجتمعات الغربية اليوم أزرار حمر في كل زاوية مكتوب عليه "معاداة السامية"، تكفيها ضغطة واحدة لتأخذ القوانين العقابية مجراها التطبيقي. قد يضغط الزر بطريق الخطأ أو بنوايا كيدية، لكن النظام القضائي يحمل الأمر على محمل الجد، تماماً كما تفعل فرق الإطفاء مع الإبلاغ عن حريق رغم احتمال كونه كاذباً. يقول لنا غربيون: لديكم أنتم العرب هامش واسع للحديث عن الصهيونية لا نملكه نحن في الغرب. لكن أزرار "معاداة السامية" في الغرب باتت يقابلها عندنا أزرار "الطائفية"، وهامش التعامل مع فرية الطائفية وخرافة التشيع في انحسار.
إلى أين يجرنا هذا اللوبي؟ على أي مسافة نحن اليوم من تشريعات تجعل التصدي للنخر الشيعي في مجتمعاتنا تهمة يعاقب عليها القانون؟
هل هذا قلق له ما يبرره؟ ما حظوظ أقلية تشتق من الخرافة معتقداً، ومن البغضاء والبذاءة والطعن واللعن والفحش آيديولوجية تجاه محيطها الكبير في القبض على مقود المجتمع؟ أسئلة واقعية من الناحية الحسابية.
لقد جاء التلمود مثقلاً بالإساءات إلى الله ، والشتائم للأنبياء ووصفهم بأبناء الزنا، واحتقر النفس الآدمية غير اليهودية وساواها بالبهائم، واعتبر قتلها قربة إلى الله. كم تعلم البشرية عن موسوعة السباب هذه؟ من كان يصدق في مطلع القرن العشرين أن القرن لن يطوى إلا وقد أحكم شتات اليهود قبضتهم على مقومات شعوبه؟ كم من الأمريكان اكترث بتحذير رئيسهم بنيامين فرانكلين (1706- 1790) من خطر استيلاء اليهود على بلادهم؟ هذا التحذير محفوظ اليوم في الكونغرس، هل عاد إليه مؤرخ أمريكي فذكّر قومه بما فيه وقد تحقق لليهود ما حذرهم منه؟
القواسم المشتركة في هذه التحولات التاريخية هي: آيديولوجية المظلمة، وآلية الاستعطاف، والإعلام، والثلاثة هي مرتكزات في المشروعين الشيعي والصهيوني، ولكن من الذي لا يقر اليوم بأن المشروع الشيعي قد تفوق بهم على المشروع الصهيوني.
إننا في عصر الأصوات، أي أن أية قضية مهما شذت وابتعدت عن هوية الأمة يمكن أن تنقلب تشريعاً يكافأ فاعله ويعاقب تاركه إذا ما استوفت الأصوات المطلوبة، وهذه لا يعوزها سوى تغليف فكري وإعلامي.
لكل مشروع سياسي أذرع ثلاثة: الأمن والمال والإعلام. وقد مدت إيران الذراعين الأمني والمالي في عمق المجتمعات العربية وبقي الإعلام، وهو الأصعب، فالأمن يشق طريقه بين العزل بالرصاص، والمال يمر على أجساد المعدمين، لكن الإعلام يمر على العقول، ومشكلة إيران هي أن مذهبها يقوم على الخرافة وإلغاء العقل، وهنا مكمن الحاجة إلى لوبي محلي يزين للعقول خرافتها المذهبية وخياناتها السياسية، وعندما تنشر خمسة صحف في خمسة دول عربية أفكار كاتب في هذا اللوبي في آن واحد، فلا عجب أن يتلعثم المسلم العربي السني عند الوصول إلى كلمات: إيران، شيعة، حزب الله، فالأجواء مشبعة بهذه الأفكار، وكل ما حوله عيون وآذان وألسنة تنتظر هفوته.
لقد أرادت إيران أن تثبت أن من يعترض طريقها تطلق النار عليه من داخل بيته، وهذا ما حدث، فقد أطلقت النار على الشيخ القرضاوي من داخل بيته، ومن الغرف المجاورة، ومرت الرصاصات على مقربة منه وسمع أزيزها، بل استطاع التعرف على ملامح مطلقيها.
لا تحسبوه شراً
وجد الشيخ القرضاوي نفسه محاطاً برجال ألصقوا أجسادهم بجسده ينضحون السهام عنه، لم يتعرف على كثير منهم، ليسوا ممن نشأ في كنفه، أو درج على نظم القصائد في مدحه أو حرص على الوجود في بقعة الضوء التي يحدثها أينما ذهب، وتلفت يمنة ويسرة فلم يرَ أناساً ما ظنهم أن يتخلفوا عن مشهد يوم عسير.
المسلمون اليوم أمام اصطفاف جديد، لا على أساس الأشخاص والمدارس والأحزاب التي صبغت عقود القرن الماضي، وإنما على أساس الثوابت والحرمات، وهو نضوج كبير في وعي الأمة، ونقلة في استراتيجيتها، ومحطة تتمحص فيها الأقلام والحناجر والعقول.
ما ذهبت إليه هذه الأقلام ليس جديداً، ومن يدخل هذه الأسماء في محرك البحث "غوغل" سيواجه بطوفان من المؤلفات التي مجدت الخميني وثورته منذ يومها الأول، وأطرت الرؤية الإيرانية في الحرب مع العراق. كما سيواجه بطوفان من الشتائم لمن تصدوا لهذه الثورة منذ يومها الأول، بل استشرفوا إرهاصاتها وأنذروا الأمة بأعلى الصوت أن قد جاء دور المجوس.
هذه الزمرة لم تأخذ حقها من التعزير الفكري لقبولها أن تكون طابوراً آيديولوجياً لجهة تضمر العداء للإسلام والعروبة، ثم أصبحت جسراً لها إلى جوف المجتمع العربي، فورماً فكرياً في جسده، فموطئ قدم طائفي وسياسي، ولو أن غيرها أساء إلى الشيخ القرضاوي لانتظره حساب آخر، ولاانبرت الألسنة الصامتة فسلقتها سلقاً، ولاانسلت السيوف المغمدة فقطعتها إرباً، ولغرزت أسنانها في لحمها.
محطة لابد منه
اتسمت حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بالعموميات الفكرية، لانصراف المعركة الإعلامية صوب عدو واحد واضح هو الكيان الصهيوني، وكانت معهداً خرّج أقلاماً أتت بالغث والسمين. الظرف السياسي والثقافي والأمني اليوم أكثر تعقيداً، والأمة أقل صموداً أمام الزلازل الفكرية، وتقف على عتبة نزالات آيديولوجية كبرى تضعها أمام إجراءات عملية لإنهاء حقبة العموميات، ليبدأ منحى جديد يستقطب أقلاماً من طراز مختلف، يضعون واقعها في إطار فكري قادر على التعبئة الفكرية العامة في معركة الدفاع عن الأمة.
يدشن المنحى الجديد بفعاليات إعلامية عالية النبرة (كتابات، ندوات، مقابلات، إغراق الانترنت بالرسائل) تكون درعاً تحمي الشيخ القرضاوي، لا لشخصه فقط، وإنما لإحباط تدشين مسلسل الاغتيالات الإعلامية واستعراض الوحدة الداخلية والحراسة الفكرية لمجتمعاتنا. وكما أن في الجرائم الجنائية يتم تعريف نوع السلاح الناري ومواصفات الطلقات ليتمكن خبراء الجريمة من إيجاد الصلة بين الجرائم وكشف شبكات محتملة ومصادر التحريض والتمويل، فكذلك جرائم الاغتيال الإعلامي التي سلاحها الأقلام.
لقد عبر الشيخ القرضاوي عن آلامه من خذلان أناس ما عرفهم أحد لولا صحبتهم له، بكلمات الشاعر:
وإخوان حسبتهمو دروعا فكانوها، ولكن للأعـادي
وخلتهمو سهاما صائبات فكانوها، ولكن في فؤادي
هذه الأبيات سترددها الأمة في وجه زمرة من أبنائها خذلتها في ساعة العسرة، وكانت سهاماً للأعادي ولم تكن دروعاً لها، وبات حق لها عليهم أن يترجلوا وينصرفوا عن المشهد، ولا يتحدثوا بالوكالة عن الأمة، فإنهم في الفتنة سقطوا
2008/11/18
اللوبي الإيراني في الإعلام العربي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق