عبد المنعم شفيق
في الحرب العراقية الإيرانية وقف أحد العلماء الإيرانيين على جبهة القتال يذكر المقاتلين باستقبال الحور العين للشهيد حين يسقط على الأرض مضرجاً بدمه، فصرخ فيه أحد الجنود قائلاً: دع الحور العين لك أنت وحدك، أما أنا فحدثني كيف وأين أرى الإمام الحسين!!.
يعلق أحد منظري حزب الله على هذه القصة فيقول: وهذا - أي رؤية الحسين - هو ما يردد الرغبة فيه كل شهداء المقاومة الإسلامية، وما يعربون عن الأمل في الحصول عليه، ويقاتلون في سبيله، ويرونه ثمناً لبذل دمهم وحياتهم!![1] هذه إشارة أولى نلتقطها في البداية.
الإشارة الثانية نلتقطها من حديث ما بعد الحرب الأخيرة على لبنان، ومن أحد كبار مساعدي مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي، ورئيس تحرير صحيفة كيهان، وهي الصحيفة اليومية الرسمية في إيران، وهو حسين شريعتمداري في افتتاحية له في مطلع شهر أغسطس 2006م تحمل عنوان [هذه حربنا] حيث يقول: إن حزب الله لا يقاتل من أجل السجناء، ولا من أجل مزارع شبعا، أو حتى القضايا العربية أياً كانت في أي وقت؛ وإنما من أجل إيران في صراعها الحدودي لمنع الولايات المتحدة من إقامة شرق أوسط أمريكي!!.
ثالثة الإشارات أو ثالثة الأثافي جاءت عقب وقف إطلاق [النار] وبعد [صمت أفواه المدافع ] مباشرة، نلتقطها من [الخطاب الساخن] للرئيس السوري بشار الأسد حين قال: إن المعركة الحقيقية ابتدأت الآن، وعلينا أن نحول النصر العسكري إلى نصر سياسي، وقال: إن المقاومة ليست نقيضاً للسلام بل هي والسلام جزء واحد!!
الإشارات الثلاث السابقة ترسم لنا ثلاثة خطوط متوازية تسير في اتجاه واحد إلى هدف واحد، وتكشف في الوقت نفسه وبوضوح شديد معالم الأيدولوجيات والاستراتجيات والتحالفات المستدامة، أو ما يمكن أن نسميه [عقيدة التثليث الجديدة] وأهدافها في المنطقة.
حزب الله.. التوسع بالذبح:
عندما كنت أشاهد ما تبثه نشرات الأخبار عن الحوار الوطني اللبناني، وأشاهد حسن نصر الله على المائدة المستديرة؛ كنت أشعر في ابتسامته بالاستخفاف، وقد علا وجهه الكثير من الريبة، فهاهي المائدة المستديرة تضم أطياف الشأن اللبناني يتناقشون في قضية قضية، ومسألة مسألة، ويتفقون ويتفقون، وكان الرجل يبيّت ما لا يعلمون، وكنت أقطع بأن هذا الحوار سينتهي إلى لا شيء، وعندما ناقشوا نزع سلاح حزب الله كان توقيتاً مناسباً لكي لا تنقلب طاولة الحوار فقط بل ينفجر لبنان بكامله في وجه الجميع.
قد يكون التوقيت مصادفة عند البعض، أما عند أصحاب النظرية التآمرية فإن له دلالات ورسائل لجهات متعددة، ونحن في هذا الحاضر الذي تمخض عنه تحولات ضخمة تؤثر في الحاضر والمستقبل معاً لا ينبغي لنا أن نستدعي [كل] التاريخ، لأن ذلك سيغرقنا فيه، وننسى ما ألم بنا، وما هو في قابل أيامنا، بيد أن التذكير بجزء من [التاريخ القريب] هام لتنشيط الذاكرة التي لم تعد تحتمل مزيداً من المآسي المتلاحقة والمستفحلة، والتي لا ينبغي لها أن تنسى رغم مرارة الآلام.
ففي 14/5/1986م نقلت صحيفة النهار عن محمد حسين فضل الله وهو الأب الروحي لحزب الله، وهو يخاطب جمهور المصلين في مسجد بلدة النبي عثمان قائلاً: وعلينا أن نخطط [للحاضر] و[المستقبل] لنكون [مجتمع حرب]، إن الحرب هذه مفروضة شأن كل الحروب التي يحل خوضها للإماميين، ولا يحل لهم خوض غيرها أ.هـ
والعقيدة الشيعة قائمة كلها على المصائب، واستدعاء المصائب، وتكرار المصائب، والنواح على المصائب، والاحتفال اللامنتهي بالمصائب، والانتقام بالمصائب، ويرون ألا نهاية لمصائبهم إلا بخروج مهديهم الذي ينتقم لها ولهم.
يقول صاحب [دولة حزب الله]: وإذا غدا استمرار الثورة - يقصد الثورة الإيرانية - ودوامها من بعد حدوثها إنجاز الثورة الأعظم؛ وجب تجديد الإعجاز كل يوم، والقيام بالثورة من غير انقطاع ولا تلكؤ، ولا يرتب تجديد الإعجاز حين تتصل الثورة الإسلامية الخمينية بين كربلاء وبين ظهور المهدي إلا إظهار الدلائل على قيام الثورة، وحفظ معناها، والحؤول بين هذا المعنى وبين الاضمحلال والضعف، ولا يتم ذلك إلا [بالإقامة على الحرب وفي الحرب]، وينبغي لهذه الحرب أن تكون الحرب الأخيرة ولو طالت قروناً لأنها تؤذن بتجديد العالم كله، وطي صفحة الزمان. ص 276
إذن نحن لا نستطيع بأي حال ببراءة كانت أو بسذاجة، أو بعاطفة أو تناسٍ أن نقتلع ما يقوم به حزب الله أو حزب الدعوة أو حزب الفضيلة، أو منظمة بدر, أو غيرهم من الأحزاب والمنظمات الشيعية من هذا السياق العقدي القائم على [التوسع بالذبح]، ولذلك لم يكن مستغرباً أبداً ألا يستنكر أو يندد [سيد المقاومة] حسن نصر الله بما يقوم به إخوانه في العراق من [ذبح] مئة ألف سني، و[تعذيب] المعتقلين، و[حرق] المساجد، و[تخريب] البيوت، و[تشتيت] الناس خارج قراهم ومدنهم، كل هذه [المصائب] التي جرها إخوة نصر الله على العراقيين لم تحرك له ساكناً، بل اصطف صفهم، ووصف [سيد المقاومة] المقاومين العراقيين بأن نصفهم صداميون، والنصف الآخر تكفيريون، أليسوا مقاومين لأمريكا وعملاء أمريكا وأذناب أمريكا كما تقاوم أنت أمريكا وعملاء أمريكا وأذناب أمريكا!!
ولا يعقل أن المطالبة بتحرير عميد الأسرى سمير القنطار أهم من حفظ الدم السني المسال في العراق، ولا يعقل كذلك أن من يدافع عن القضية الفلسطينية ويدعم القضية الفلسطينية، ويدندن حول القضية الفلسطينية؛ يترك أهل المخيمات الفلسطينية في العراق يذبحون ويهجرون على أيدي إخوان الطائفة والمرجعية الواحدة!!
وكيف يفسر حسن نصر الله قصر مطالبته بتحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، وينسى أن يطالب سوريا وهي الجارة والحليفة أن تفرج عن المعتقلين السياسيين من الإسلاميين والشرفاء؟، كما ينسى أن يطالب إيران ولو بالكف عن سوء معاملة أهل السنة، والسماح لهم ببناء مسجد واحد على الأقل في طهران، كل هذا وغيره يجعلنا نشكك وبقوة في نوايا حزب الله اللبناني وقيادته، ومشروعه وارتباطاته وتحالفاته.
أبعد من الأسرى وأهم من شبعا:
ومن التاريخ القريب أيضاً نستدعي بعض الذكريات التي نسترجع بها علامات التحذير والإشارات الحمراء التي أضيئت في وجوهنا، وأغمضنا أعيينا عنها كي لا نتأذى بها، أو تركناها لتختبئ بين السطور الكثيرة التي لم نعد نقرأها، ومنها:
* في عام 1982 م اعتذر نائب وزير الخارجية الإيراني محمد عزيزي عن ضعف مشاركة القوات الإيرانية في القتال بلبنان بأن الطريق إليه تمر عبر العراق، فلا تصبح قوات إيران حرة تماماً في أن تلعب دوراً فعلياً وجوهرياً في لبنان إلا بعد سقوط النظام العراقي.
* وفي ذكرى أسبوع أحد موظفي السفارة الإيرانية ببيروت [مصطفى توراني] قال الشيخ حسن طراد إمام جمعة مسجد الإمام المهدي بالغبيري: إن إيران ولبنان شعب واحد، وبلد واحد، وكما قال أحد العلماء الأعلام: إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعاتنا الإيرانية سياسياً وعسكرياً.
وبعد إحياء بعض التحذيرات القديمة التي آمل أن تبقى حية نعود لنقف على امتدادات ذلك التاريخ وتطوره الطبيعي:
يقول هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني السابق، ورئيس مجمع تشخيص النظام، والرجل القوي في إيران:
تعتقد إيران أن مساعدتها لحزب الله في لبنان [واجب مذهبي وثوري]، وأنها سوف تستمر في دعمه طالما ظلت أراضيه محتلة، أو [مهددة]، وأنها مع تقديرها للمواقف الشجاعة لشعب لبنان وحكومته في دعم جبهة المقاومة أمام محاولات التوسع للنظام الصهيوني تؤكد استمرار دعم إيران للمقاومة الشعبية في لبنان.
ويرتبط حسن نصر الله وأحمدي نجاد بعلاقة صداقة قديمة، فقد تدربا سوية - حسب مصادر أوروبية - في بلد آسيوي على أعمال استخباراتية، ثم عندما أصبح نصر الله أميناً عاماً لحزب الله جاء نجاد إلى لبنان مشرفاً على [مؤسسة الشهداء الإيرانية]، وعندما تم تنصيب نجاد رئيساً لإيران العام الماضي حضر نصر الله مراسم الاحتفال، ثم قفل عائداً إلى لبنان سريعاً بعد ثمانية أيام كاملة في إيران!! ويبدو أن يوماً واحداً لم يكن كافيا للتبريك وتبادل القبلات والأشواق.
ونبقى مع نصر الله أيضاً وفي يوم الجمعة 25- 11- 2005، وفي [حفل] أقيم في ضاحية بيروت الجنوبية بمناسبة [تسلم جثث] ثلاثة مقاتلين من حزب الله قال حسن نصر الله: حقنا الطبيعي أن نأسر جنوداً إسرائيليين، ومن واجبنا أن نفعل ذلك لمبادلتهم بلبنانيين لا يزالون معتقلين في السجون الإسرائيلية، وقال: إن إسرائيل اعتقدت أن 'لبنان تغير, وسوريا خرجت منه، وخروج هذه القوات بحسب فهمها أضعف المقاومة وإرادتها'، وأكد على أنه 'يجب أن يفهم كل العالم أن المقاومة الإسلامية ستواصل الطريق حتى تحقيق الأهداف، وحماية الوطن مهما كانت التضحيات.
وقد وفى نصر الله بوعده كما عهدته جماهير الأمة العربية، وضحى بأكثر من 1300 لبناني، وبضعة وستين مقاتلاً من حزبه البالغ عدده 8000 مقاتل!!
ونحاول هنا فك رموز أو غموض كلام نصر الله حول الحرب الأخيرة، هل تم استدعاؤها من قبل حلفاءه، أم أن كانت مجرد عملية أسر عادية، ولم يكن يتوقع تداعياتها، أو لم يكن يفهم العقلية الصهيونية التي يحاربها منذ عقود!!؟
ففي حواره مع صحيفة السفير اللبنانية بتاريخ 5/9/2006م قال ما نصه: 'أنا كنت واضحاً، وقلت: إن الحرب ليس سببها عملية الأسيرين، الحرب هي قرار أميركي إسرائيلي، ومغطى من أماكن معينة، والحرب مجهزة ويستكمل التجهيز لها و[التوقيت محدد]، وكانت تعتمد على عنصر المفاجأة بشكل أساسي ولها سيناريو، وحتى إن السيناريو الذي طبق ليس هو المقرر.
عندما حصلت عملية الأسيرين وسقط هذا العدد من القتلى استُفز الإسرائيليون، ووجدوا أنفسهم أمام واقع إما أن يتحملوا ما حصل، أو يذهبوا إلى المعركة [المقررة في أوائل الخريف] معلوماتنا أنه بعد التشاور مع الأميركيين في اليوم الأول تقرر الذهاب إلى المعركة التي "كانت معدة للتنفيذ في تشرين"، نحن أفقدناهم عنصر المفاجأة [فرضنا عليهم توقيتاً غير التوقيت الذي أعد له بدقة، وبالتالي حصلت المعركة ونحن مستنفرون ومتهيئون]، وهم ليسوا جاهزين.
الحرب التي كانت ستبدأ في تشرين كانت ستبدأ بشكل مفاجئ جداً، ومن دون أي ذرائع'، ويضيف نصر الله: 'نعم الأسر استغل لتوقيت الحرب، وبرأينا هذا كان من مصلحتنا ومصلحة لبنان، وأنه استعجل حرباً كانت ستحصل بشكل قاطع ولذلك إذا كنت أريد أن استعمل عبارات لا يمكن اجتزاؤها أو اقتطاعها أنا أقول: لم نخطئ التقدير، وكانت حساباتنا دقيقة وصحيحة، وأيضاً لسنا نادمين!! وأنا لم ألق خطاب ندم أو هزيمة، وأعتقد أن هذا قلته أكثر من مرة أن ما حصل في توقيت وقرار العملية وما أدت إليه كان توفيقاً إلهياً ولطفاً إلهياً، [ولو أننا لم نذهب إلى تلك العملية وبقينا غافلين إلى تشرين] لكان لبنان غير لبنان، لذلك أكرر وأقول لسنا نادمين ولم نرتكب أي خطأ، وكانت تقديراتنا صحيحة، وأن ما حصل هو أهم بكثير من التقديرات التي كنا نتحسب لها' أ. هـ
إذن فالكلام الذي جاء بعد وقف إطلاق النار مع تلفزيون الجديد من أنه لم يتوقع أن تؤدي عملية الأسر لما أدت إليه، وأنه لو كان يعلم ولو واحد بالمئة لما خاضها كلام كاذب ومخادع، ولعب بدماء اللبنانيين قبل عقولهم ومشاعرهم.
وانسجاماً وتوافقاً مع كلام حسن نصر الله من [استدعاء الحرب] وجر إسرائيل إليها؛ فقد كانت هناك أحاديث دولية متفرقة حول هذا الاستدعاء.
ففي تاريخ 6 /1 /2006م أي قبل ستة أشهر من اندلاع الحرب المستدعاة كتبت مديرة مكتب جريدة الحياة في نيويورك مقالاً بعنوان: سيناريوات لـ«استدعاء» ضربة عسكرية للبنان وسورية، جاء لينبه إلى إعدادات واستعدادات وسياسات خطيرة كانت تصنع حينذاك، تقول فيه: يتحدثون في الأوساط الدولية عن سيناريوات تدق في عصب القرارات «الوجودية» لكل من النظام في سورية، ولـ«حزب الله»، ويحذرون من عواقب ضرب مدن إسرائيلية عبر الحدود اللبنانية على كامل سورية ولبنان، هذا الكلام ليس عشوائياً وإنما ينطلق من مؤشرات على أرجحية لجوء دمشق إلى إجراءات استدعاء ضربة عسكرية إسرائيلية للبنان وسورية.
وتضيف: أهم حلقة في الإجراءات على الساحة اللبنانية وعبرها هو «حزب الله» الذي يمتلك أدوات تنفيذ الإجراءات أو تعطيلها، لذلك فإن مسؤولية توريط لبنان في قصف أو غزو إسرائيلي له تقع على أكتاف قيادة «حزب الله» التي عليها أن تختار اليوم بين تحصين لبنان ضد الاستخدام والانتقام، وبين التضحية به خدمة لسورية أو لإيران.
القيادتان في هاتين الدولتين قد تجدان أن من مصلحتهما في هذا المنعطف استفزاز إسرائيل عبر «حزب الله»، إما لتحويل الأنظار والضغوط عليهما، أو لحشد العاطفة المعادية لإسرائيل لتخدمهما محلياً وإقليمياً، أي عمليات عبر الحدود اللبنانية - الإسرائيلية يقوم بها «حزب الله» في هذه المرحلة ستعد قراراً مدروساً لاستدعاء قصف لبنان، وأي تشجيع سوري لمثل هذا التطور سيعد رغبة مبيتة لاستفزاز قصف إسرائيلي لسورية أيضاً يؤدي إلى تمكين دمشق من أن تعلن أمام العرب أنها في حال حرب مع إسرائيل، أما إيران فإنها حسب قول علي لاريجاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني «وضعت سيناريو للرد» على محاولات إجبارها على التخلي عن تخصيب اليورانيوم، وخططت لـ«جر المنطقة إلى حرب» حسب تعبيره حينذاك، و«هذا تماماً ما تداولته الأوساط الدولية من سيناريو حرب إقليمية لإشعال المنطقة تستدرجها طهران، وتستفزها سورية» بما «يقتضي تفجير العلاقات اللبنانية - اللبنانية الطائفية منها والحزبية، واختلاق مشاكل على الصعيد اللبناني الداخلي».
لو أضفنا الكلام السابق خاصة كلام علي لاريجاني إلى ما صدرته في المقدمة من كلام حسين شريعتمداري حين قال: إن حزب الله لا يقاتل من أجل السجناء، ولا من أجل مزارع شبعا، أو حتى القضايا العربية أياً كانت في أي وقت، وإنما من أجل إيران في صراعها الحدودي لمنع الولايات المتحدة من إقامة شرق أوسط أمريكي!!، وضممنا إليه كذلك كلام الرئيس السوري: إن المعركة الحقيقية ابتدأت الآن، وعلينا أن نحول النصر العسكري إلى نصر سياسي، وقال: إن المقاومة ليست نقيضاً للسلام بل هي والسلام جزء واحد!! ثم راجعنا كلام حسن نصر الله في بداية الحرب حين قال أن [قواعد اللعبة] قد تغيرت، وهي ما يعني وجود [قواعد متفق عليها]، ووجود [اتفاق على اللعب بالمنطقة] لأدركنا بوضوح وجلاء أن ما كان تاريخاً أصبح واقعاً، وأن الواقع صنع في التاريخ، وأن المنطقة الآن توشك أن يكتمل فيها الهلال الشيعي من البحرين حتى لبنان.
وينبغي لنا هنا أن نتساءل: لماذا مقاومة حزب الله غير مستدامة طالما أن هناك عدو ينبغي أن يزول كما هو الحال في فلسطين والعراق؟ الأهم من ذلك أنها لا تأتي إلا متزامنة مع ظروف سياسية، ومع الحاجة إلى أوراق جديدة لفك أزمة أو تحريك جمود في المواقف، ولماذا توقفت [الحرب المفتوحة] التي أعلنها نصر الله فجأة؟ رغم أن الجيش الإسرائيلي ما زال موجوداً في الجنوب، وحصاره البحري والجوي بقي حتى منتصف شهر سبتمبر 2006، وأصبح أقصى ما أراده حزب الله هو قرار دولي لوقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، أين ما قاله نصر الله [حرب مفتوحة... أردتموها حرباً مفتوحة؟ نحن ذاهبون إلى الحرب المفتوحة، ومستعدون لها... إلى حيفا وإلى ما بعد حيفا]!! ولماذا لم تضرب المنشآت الكيماوية في حيفا؟ ولماذا لم تقصف تل أبيب طالما أنها في مرمى صواريخ حزب الله؟ ثم لماذا يقاتل حزب الله دفاعاً عن مزارع شبعا وهي أرض سورية؟ ولماذا يذبح اللبنانيون من أجل مزرعة جارهم الصغيرة، ويسكت الجار عن كامل الجولان المحتل؟!
وقواعد اللعبة التي ذكرها نصر الله يقصد بها اتفاق التفاهم الذي تم قبل الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000م، والذي كان أبرز بنوده ما تم نشره بعد تسريبه في صحيفة شبيجل الألمانية يوم 13/6/2004 م، وكما جاء في نص الوثيقة التي وصلتني نسخة مترجمة لها كانت بنود الاتفاق كما يلي:
المرحلة الأولى من الاتفاق: تشكيل لجنة أمنية من ميليشيا حزب الله وجيش الدفاع الإسرائيلي لوضع خطة ميدانية لترتيب عملية انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي بإشراك بعض الضباط الأمنيين في الجيش اللبناني الذين يختارهم الحزب.
المرحلة الثانية بند [أ] يقوم الجيش الإسرائيلي بسحب قواته كافة من كامل الأراضي اللبنانية، والحزام الأمني إلى الحدود الدولية في مدة لا تتعدى ثلاثة أشهر تحت إشراف ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وفقاً للقرارات الدولية المتعلقة بجنوب لبنان، وإنهاء حالة الحرب هناك، كما يقوم جيش الدفاع الإسرائيلي بحل وتفكيك مليشيات جيش لبنان الجنوبي، ولا يشمل الانسحاب مزارع شبعا على أساس أنها أرض سورية مرتبطة أمنياً بهضبة الجولان، وأمن دولة إسرائيل.
فقرة [ب] تقوم ميليشيا حزب الله بتسلم المواقع العسكرية والأمنية من جيش الدفاع الإسرائيلي, وجيش لبنان الجنوبي فوراً بعد إخلائها للحيلولة دون وقوعها بأيدي منظمات فلسطينية أو إرهابية معادية لإسرائيل.
فقرة [ت] يتعهد الجيش الإسرائيلي إطلاق سراح أسرى ميليشيا حزب الله ممن استكمل معهم التحقيق, على أن يتم إطلاق الشيخ عبد الكريم عبيد في مرحلة لاحقة بعد تسوية وضع الطيار الإسرائيلي، وسيقوم الوسطاء الألمان بمعالجة هدا الملف.
فقرة [ج] يتعهد الجيش الإسرائيلي بعدم استهداف أعضاء أو مؤسسات تابعة لهذا الحزب, وأن يسمح للحزب بتحريك أسلحته الثقيلة في المنطقة الحمراء للحفاظ على الأمن والهدوء.
فقرة [د] أن تعمل ميليشيا حزب الله على الانتشار في المنطقة الحمراء كلها {الحزام الأمني} حتى الشريط الحدودي بين لبنان ودولة إسرائيل، وإحلالها مكان ميليشيا جيش لبنان الجنوبي بعد حل الأخرى.
فقرة [و] أن يعمل الحزب على ضمان الأمن في هذه المناطق التي ستصبح تحت سيطرته, وذلك {بمنع المنظمات الإرهابية من إطلاق الصواريخ على شمالي إسرائيل}، ووقف التسلل, واعتقال العناصر التي تهدد أمن حدود إسرائيل الشمالية، وتسليمهم إلى السلطات اللبنانية لمحاكمتهم، كما يتعهد الحزب بمنع الأنشطة العسكرية وغير العسكرية لمنظمات إرهابية فلسطينية أو لبنانية معادية لإسرائيل في المنطقة الحمراء، يتعهد حزب الله بالمساعدة في جمع وتقديم المعلومات عن الطيار الإسرائيلي {كوخاي} الذي اختفى في لبنان أثناء الحرب.
فقرة [هـ] تنسق الحكومة اللبنانية والسورية مع حزب الله على تنفيذ الاتفاق، كما تتعهد إيران بكونها المرجع والمؤثر القوي لحزب الله بضمان الاتفاق، والمساهمة الفعالة في تثبيت الأمن في هذه المنطقة, وتتعهد الحكومة اللبنانية والسورية {بعدم ملاحقة أو محاكمة أعضاء جيش لبنان الجنوبي}، وأن تقدما المساعدة على دمجهم بالمجتمع، وتوفير المساعدة والحماية اللازمة لمن يرغب منهم العودة إلى بيته، وبناء عليه ستقوم كل من إيران وأمريكا بالسعي لحل مشكلة الأموال الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة التي تطالب بها إيران. أ هـ
وبسبب هذه التسريبات [المحرجة جداً] لحزب الله يحاول الحزب الآن في مفاوضاته القادمة مع اليهود التشديد على كتمان الأسرار، فعندما سئل غسان بن جدو حسن نصر الله في مقابلة خاصة مع قناة الجزيرة بتاريخ 12/9/2006م: السؤال المركزي الآن هل حزب الله سيطالب فقط بالأسرى اللبنانيين أم سيطالب بغير اللبنانيين أيضاً؟
أجاب حسن نصر الله: أنا أفضِّل يعني واحدة من مشاكل المفاوضات السابقة أنه رغم أنه نحن حرصنا كثيراً يعني على عدم الدخول في شأن وتفاصيل مفاوضات في الإعلام لكن التسريبات اللي صارت في الطرف الإسرائيلي أدت إلى تعقيد عملية التفاوض، وأنا بأعرف نتيجة مواكبة المفاوضات السابقة أنه أكثر من مرة نتفق على شيء يرجع يتخرب من خلال تسريبه إلى وسائل الإعلام، أنا أفضِّل في هذه المفاوضات وحرصاً على الهدف والهدف معروف على كل حال يعني إحنا هدفنا إنساني بالدرجة الأولى أن نحتفظ في هذه المفاوضات بكل شيء ليبقى في الغرف المغلقة [حتى لا نحرج أنفسنا]، ولا نحرج أحداً، أنا أعرف أن الناس يحبون أن يسمعوا بعض الوعود، وبعض التطمينات، الأمور بخواتيمها، وأنا حتى قلت للإخوان يعني للفريق الذي سيباشر التفاوض من طرفنا قلت لهم: عندما تلتقون بهذا الوسيط أول شرط يجب أن تضعوه هو أن يأخذ التزاماً من الطرف الإسرائيلي بعدم تسريب مجريات التفاوض إلى وسائل الإعلام، وعندما يحصل أي تسريب ستتوقف المفاوضات، وأنا هذا أؤكد عليه، مفاوضات سليمة تؤدي إلى أفضل النتائج هي التي تبقى بعيداً عن الإعلام.
وعندما كان صبحي الطفيلي الأمين العام الأول لحزب الله يردد دائماً أن المقاومة اللبنانية تحولت إلى حامية لحدود إسرائيل الشمالية؛ كان البعض يعد ذلك تصفية لحسابات قديمة بين الرجل والحزب الذي أقيل من رئاسته، ما قاله الطفيلي شهدت به إسرائيل لحزب الله، فقد امتدحت جريدة هآرتس في 6/7/2006 م الأمين العام للحزب بسبب عقلانيته وتحمله للمسؤولية، وأنه حافظ على الهدوء في الجليل الأعلى بشكل أفضل من جيش لبنان الجنوبي، وهو اليوم يتعقل فلا يضرب المنشآت الحيوية لإسرائيل كما صرح بذلك.
حزب الله في المشروع [التمدد] الجديد:
لخص دبلوماسي غربي مناكفات حزب الله في المنطقة بقوله: إن حزب الله هو الباب الذي يمكن لإيران أن تدخل منه إلى منطقة الشرق الأوسط، بمعنى أن إيران لن تتنازل عن هذه الورقة قبل أن تتوصل مع الغرب إلى اتفاق يضمن لها أمنها.
وعقب الانسحاب الإسرائيلي مباشرة من لبنان عام 2000 قال حسن نصر الله: هناك سورية التي لا يستطيع أحد أن يتحدث عن النصر بمعزل عنها، لأنها ومنذ سنة 1982م وقفت إلى جانب المقاومة، وساندتها وحمتها، مساندة سوريا عمل أساسي في هذا النصر، وعندما نتحدث عن النصر يجب أن نتحدث عن الجمهورية الإسلامية في إيران، وهي وقفت منذ 1982م إلى جانب المقاومة، ودعمتها وساندتها وحمتها.[5]
وفي حوار نصر الله مع قناة الجزيرة 21/9/2006م قال: 'الذي يقول أنا مع محور إيراني سوري، أنا لا أستحي من التحالف، وهم يتحالفون ويستحون بتحالفاتهم، أنا على رأس السطح أقول أنا صديق لسوريا، وحليف لسوريا، وأتعاون مع سوريا، ويوجد أمور مشتركة بيننا وبينهم، أي نعم بيهمنا سوريا وإيران أصدقاؤنا وحلفاؤنا وأحباؤنا وأعزاؤنا، ونعتز بهم ونفتخر مش خجولين '.
ولكن يبدو أن نصر الله خجل جداً عندما اعتذر عن تلبية الدعوة لزيارة السعودية قبل الحرب، بل بكل شجاعة قال أنه الحزب الوحيد في لبنان المستقل عن أي محور أو دولة!!، فقال في حديثه مع صحيفة السفير 5/9/2006م 'أنا فهمت في المقابل أن بعض المسؤولين في المملكة يعتقدون أن ما يحول دون تلبيتي للزيارة توصيات إيرانية وسورية، هذا غير صحيح نهائياً [على كل حال سوف تأتي الأيام، وتثبت أن أكبر حركة سياسية استقلالية في لبنان عن أي محور أو دولة هي حزب الله].
وهذا الكلام بطبيعة الحال ينافي تماماً مع المسلمات المعلومة عن الحزب بالضرورة والواقع، ولهذا وعقب هذه العبارة مباشرة أفاق الرجل من غفلته أو غلطته وقال مصححاً: 'ولو لكن أريد أن أصحح الاستنتاج الخطأ لدى بعض المسؤولين في المملكة وأقول لهم أنه [عندما عرف الإيرانيون والسوريون بوجود الدعوة بادروا إلى تشجيعي على تلبيتها!!]، وقالوا أن ذلك من شأنه تطوير العلاقات أكثر مع المملكة، وذلك على عكس ما يظن بعض المسؤولين السعوديين'.
وقد كان لافتاً جداً وفجاً جداً وسريعاً جداً تصريحات القيادتين السورية والإيرانية عقب إعلان الانتصار على العدو الصهيوني!! ولم يتركوا [سيد المقاومة] يعرب عن فرحته بالانتصار أولاً، بل جعلوه يعتذر ويأسف لكل ما حدث للبنان.
ففي الوقت الذي شن فيه الرئيس بشار الأسد هجوماً عنيفاً على كل ما هو عربي، وعلى أنصاف الرجال، وأنصاف المواقف والمصنوعين إسرائيلياً، قال: [إن المقاومة ليست نقيضاً للسلام بل هي والسلام جزء واحد!!]، وقد ذكرني هذا الخطاب بموقف الرئيس أنور السادات بعد حرب [التحريك] أكتوبر 1973م في خطاب الانتصار أيضاً حين قال: إن أيدينا ممدودة للسلام!!
وعلى الجانب الإيراني فقد صرح رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإيراني 'اللواء فيروز آبادي' أن إيران لن تدخل الحرب الدائرة في لبنان بين إسرائيل وحزب الله، وقد لاقى ذلك التصريح ارتياحاً إسرائيلياً بالغاً حسب ما ذكرته صحيفة هآرتس ونشرت ترجمته الصحافة الإيرانية.
كما صرح وزير الدفاع الإيراني اللواء مصطفى محمد نجار في كلمة في مدينة همدان: إن الجمهورية الإسلامية تعمل على استقرار الأمن، وترسيخ الصلح والمحبة بين دول المنطقة!! ثم تلا هذه التصريحات الودودة جداً والمحبة للسلام ما كان أكثر منها وداً أو بالأحرى طلباً للود والتي جاءت من الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أثناء افتتاحه لمنشأة أراك لإنتاج الماء الثقيل، والتي قال فيها: إن إيران لا تمثل تهديداً للدول الأجنبية ولا حتى لإسرائيل!!
ثم تلا ذلك زيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي لواشنطن، وإلقاؤه كلمة في أحدى كنائسها عن السلام، وحوار الأديان، وتبشيره الغرب بأن منفذي هجمات 11 سبتمبر لن يدخلوا الجنة!!، وهو بذلك يكون أول مسئول إيراني رفيع المستوى يزور واشنطن منذ قيام الثورة الإيرانية.
كل هذه التحركات والتصريحات تصب في خانة واحدة، وفي اتجاه واحد، ولصالح مشروع واحد، وهو مشروع من يشكل صورة المنطقة، ويسيطر عليها في المرحلة القادمة.
وقد كان [استدعاء الحرب] من قبل سوريا وإيران، وإحراق لبنان؛ يهدف إلى إيصال عدد من الرسائل الملوثة بالدم والمعطرة برائحة الموت إلى عدد من الأطراف في المنطقة والفاعلة فيها، ومن هذه الرسائل:
أولاً على الجانب السوري:
أن دمشق بعد الانسحاب المهين من لبنان بقرار دولي، والحديث عن أن سوريا أو حلفاءها في لبنان لم يعد لا لها ولا لهم أي تأثير في الشأن اللبناني؛ أرادت أن تثبت للجميع لبنانياً وعربياً وإسرائيلياً ودولياً أنها ما زالت ممسكة بأهم أوراق اللعبة في لبنان، وأن بيدها تحريك أدواتها في لبنان متى شاءت، وأنها تستطيع أن تجر على لبنان ما هو أكثر من سجالات أو فتنة سياسية، ومناطحات حزبية بين مُواليها ومعارضيها، وهذه كانت رسالة موجهة إلى الداخل اللبناني في المقام الأول.
الرسالة السورية الثانية كانت موجهة إلى الجانب الإسرائيلي والتي جاءت واضحة في شقها الأول بأن سوريا ما زال لديها القدرة على إزعاج إسرائيل بشكل يهدد أمنها ومواطنيها ومستوطناتها، وذلك بتوجيه الأوامر لحزب الله بافتعال أزمات متكررة تبقي الصداع الإسرائيلي مستمراً، كما أن السلاح الإيراني سيظل يتدفق على حزب الله عبر الحدود السورية، وقد فهمت إسرائيل هذه الرسالة، فلم توقف الحرب حتى دكت أغلب البنى التحتية العسكرية والتعليمية والصحية والمؤسسية لحزب الله، حتى أنها لم تترك بيت حسن نصر الله ومقره العام.
الشق الثاني من الرسالة السورية الموجهة لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة أنه وبرغم أنها قادرة على إزعاج إسرائيل عبر لبنان إلا أنها لا تريد حرباً حقيقية مع إسرائيل، كما أن إسرائيل لا تريد هذه الحرب، وقد لوحظ أنه لم تسجل في الحرب الأخيرة سوى غارة إسرائيلية واحدة على الحدود السورية، وقد سارعت الدولتان السورية والإسرائيلية لنفي حدوث ذلك، وأعاد السوريون نفيهم بوقوع أي غارة إسرائيلية داخل أراضيهم، وكانت الرسالة تتضمن أن سوريا بيدها لجم حزب الله إذا أرادت، وقد مدت سوريا يدها بالسلام عبر [الحرب بالوكالة]، فينبغي لمفاوضات السلام أن تعود بعد أن انقطعت، ولكن مع تغير في قواعد اللعبة فرضته الحرب الأخيرة، ولذلك فقد كان استخدام سوريا لحزب الله هو لتحسين ظروفها التفاوضية مع الإسرائيليين، وتحسين ظروف تفاوض حليفتها إيران مع الولايات المتحدة كما سيأتي.
الرسالة السورية الثالثة كانت موجهة للدول العربية بشكل مباشر وصريح بأن سوريا قد حسمت تأرجحها بين قوميتها العربية وتحالفاتها الطائفية الاستراتيجية، وأن نصيبها من كعكة السيطرة القادمة على المنطقة مضمون بالانضواء تحت العمائم السوداء، فهم سادة المنطقة الجدد، وستكون الجسر الذي تكمل به إيران طريقها من البحر الأسود إلى البحر المتوسط.
ثانياً: على الجانب الإيراني:
أرادت إيران في رسالتها الأولى من هذه الحرب أن تقول للشعوب العربية والإسلامية أنها ما زالت العدو الوحيد الذي يواجه الاستكبار الصهيوني في المنطقة، رغم أنها حرب خاضها بعض صنائعها على بعد مئات الأميال عن أراضيها.
الرسالة الثانية كانت موجهة مباشرة إلى إسرائيل، فالصواريخ التي استخدمها حزب الله وأصابت أهدافاً إسرائيلية بدقة قالت إيران من خلال ذلك أنها غير مضطرة لاستخدام صواريخها بعيدة المدى للهجوم على إسرائيل، وأن الجنوب اللبناني أقرب بكثير لتل أبيب من طهران وهمدان.
ومما وجه لإسرائيل والولايات معاً أن إيران يمكنها في ظل التراجع الكبير للدور العربي في القضية الفلسطينية أن تلعب دوراً فاعلاً في [حل نهائي] حال الاتفاق معها.
كانت الدول الغربية واعية لأهداف حرب الوكالة لحزب الله، فقد قالت كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية إنها ترى النزاع في لبنان كأنه حرب أوسع حول من يفرض أجندة الشرق الأوسط الجديد، وعلى خطى هذا الفهم تحدث توني بلير رئيس الوزراء البريطاني عن وجود «قنطرة من عدم الاستقرار» تمتد من شمالي أفريقيا إلى المحيط الهندي، ووصف الحرب في لبنان بأنها جزء من نزاع بين الديمقراطيات الغربية، والإسلام المتطرف.
لكن اللافت للنظر أنه لم تكن هناك اتهامات غربية واضحة لإيران بوقوفها وراء هذه الحرب، بل جاءت اتهامات إسرائيلية تحدثت عن وجود جثث لقتلى من الحرس الثوري الإيراني بين قتلى حزب الله، ولكن الولايات المتحدة نفت ذلك؛ فقد نشرت صحيفة 'نيويورك تايمز' الصادرة في الثالث من أغسطس الماضي تقريراً استخبارياً أمريكياً يؤكد عدم وجود مثل هذا التدخل!!
الرسالة الإيرانية الثالثة جاءت لا لترد على الآراء الغربية بل لتتوافق معها وحرفياً، فقد جاء على لسان علي أكبر ولايتي مستشار [المرشد الأعلى] حالياً، ووزير الخارجية الإيرانية لمدة 16 عاماً ما نصه: إنه بإطاحة نظام طالبان في كابل ودكتاتورية البعث في بغداد خلقت الولايات المتحدة فرصة تاريخية لإعادة صياغة الشرق الأوسط، ومع رحيل طالبان وصدام حسين تشعر إيران بالأمان على حدودها، ويمكنها أن تنتقل إلى الهجوم سعياً لتحقيق طموحاتها الإقليمية.
وسبقه في إيضاح الطموح والسعي الإيراني لتنفيذ مشروعها التوسعي الكبير مستشار [المرشد الأعلى] أيضاً حسين شريعتمداري، وفي افتتاحيته التي اقتبست منها آنفاً، حيث يقول: إنه بسقوط الشيوعية فإن مهمة تحدي الغرب «الكافر» تحت زعامة الولايات المتحدة في تحديد الأجندة العالمية قد انتقلت إلى الجمهورية الإسلامية وأيديولوجيتها الخمينية.
كما أكد أيضاً في حوار أجرته معه مجلة نيوزويك الأمريكية؛ أن إيران تلعب دوراً محورياً في بناء نظام الشرق الأوسط الجديد، ومفاد هذه الرسالة للولايات المتحدة أولاً إن ما أرادت أمريكا تحقيقه في أفغانستان والعراق ما كان ليحدث لولا التفاهمات والمساعدات الميدانية الإيرانية، وما تزال طهران تمسك بزمام الورقة العراقية، وإن أرادت إزعاج الولايات المتحدة فيكفيها أن يتراجع السيستاني عن فتواه بتحريم قتال الأمريكان!!، كما يمكن استمرار حزب الله في المناوشات على الحدود مع إسرائيل، ولذلك: فعلى الولايات المتحدة أن تتفاهم وتتعامل مع إيران كشريك أساسي في رسم الشرق الأوسط الجديد على أنها القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة.
وإيران مع ذلك غير مستعجلة للتفاهم السريع مع الغرب، فهو يعني تقديم تنازلات قد تكون كبيرة، والقيادة الإيرانية تراهن فيما تراهن على انتظار مغادرة الرئيس الأمريكي البيت الأبيض، وانسحاب عسكري أمريكي من المنطقة، مما يخولها وحلفاءها الاستفراد بالمنطقة، كما أن إيران تسير بخطى منتظمة نحو امتلاك السلاح النووي، ولو أضيف السلاح النووي إلى السلاح النفطي الذي تملكه لكان الناتج يساوي دولة عظمى.
مستقبل حزب الله:
هتفت جماهيرنا العربية بحياة جمال عبد الناصر بعد [نكسة] 1967م، ولم يرتضوا عنه بديلاً حين تنحى عن الحكم، وفي لبنان شاهد حسن نصر الله حجم التدمير والحقد الصهيوني في الأيام الأولى للحرب، ورغم ذلك أصر على الاستمرار حتى تأتيه أوامر التوقف، ثم جاء يهزأ من الجميع ويقول: لو كنا نعلم أن خطف الجنديين سيؤدي إلى ما حدث ولو واحد في المئة لما أقدمنا عليه، ورغم [الاعتذار] والقتل والتشريد، والتهجير والتخريب؛ خرجت الأمة تغني للانتصار المجيد!!
وبعد [مراوغة الاعتذار] المفضوحة فتح ملف مستقبل حزب الله، ومما لا شك فيه أن بقاء حزب الله مرتبط بتنفيذ دوره المناط به من قبل سوريا وإيران، وحتى الآن لم يتحقق لكلا البلدين ما سعيا للوصول إليه بأداة حزب الله، ومما لا شك فيه أن الموقف الإيراني يزداد قوة، وهذه القوة ستلقي بظلالها على حزب الله، وسوريا خرجت جريحة من لبنان، ولا يوجد لها حلفاء في لبنان بقوة حزب الله، وتصفية هذا الحزب يعني النهاية التامة للدور السوري في لبنان، وهو ما لا تريده دمشق.
كما أن الحزب يعد أنجح الأذرع الإيرانية في المنطقة، وقدم خدمات جليلة للطائفة الشيعية بأسرها، وكانت تجربته جديرة بالاستنساخ في دول أخرى تسعى إيران لغرس مخالبها فيها، وللحزب حضور إعلامي قوي بين جماهير المسلمين، وهو تأثير بالغ الخطورة حيث تلوثت مفاهيم كثيرة ليس للعوام فحسب بل لدعاة ومثقفين، وهذا التأثير مطلب شيعي لنشر المذهب.
مما سبق يجعلني أقول: إنه من الصعب التضحية به أو ذبحه كما يقال على الأقل في المدى القريب، فأبعاد العلاقة بين حزب الله وإيران تختلف كلية عن شيعة الأهواز العرب، أو بعض العشائر الشيعية العربية في العراق، أو شيعة أذربيجان الأتراك، لكن سيكون على الجانب الآخر خصوم وأعداء ومناهضو المشروع الإيراني وذراعه اللبناني الذين يدركون أبعاد المشروع التوسعي ودور حزب الله فيه، ولن يتوقفوا عن محاولات وضع العصي في عجلات هذا المشروع لإيقافه أو تفجيره.
في الحرب العراقية الإيرانية وقف أحد العلماء الإيرانيين على جبهة القتال يذكر المقاتلين باستقبال الحور العين للشهيد حين يسقط على الأرض مضرجاً بدمه، فصرخ فيه أحد الجنود قائلاً: دع الحور العين لك أنت وحدك، أما أنا فحدثني كيف وأين أرى الإمام الحسين!!.
يعلق أحد منظري حزب الله على هذه القصة فيقول: وهذا - أي رؤية الحسين - هو ما يردد الرغبة فيه كل شهداء المقاومة الإسلامية، وما يعربون عن الأمل في الحصول عليه، ويقاتلون في سبيله، ويرونه ثمناً لبذل دمهم وحياتهم!![1] هذه إشارة أولى نلتقطها في البداية.
الإشارة الثانية نلتقطها من حديث ما بعد الحرب الأخيرة على لبنان، ومن أحد كبار مساعدي مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي، ورئيس تحرير صحيفة كيهان، وهي الصحيفة اليومية الرسمية في إيران، وهو حسين شريعتمداري في افتتاحية له في مطلع شهر أغسطس 2006م تحمل عنوان [هذه حربنا] حيث يقول: إن حزب الله لا يقاتل من أجل السجناء، ولا من أجل مزارع شبعا، أو حتى القضايا العربية أياً كانت في أي وقت؛ وإنما من أجل إيران في صراعها الحدودي لمنع الولايات المتحدة من إقامة شرق أوسط أمريكي!!.
ثالثة الإشارات أو ثالثة الأثافي جاءت عقب وقف إطلاق [النار] وبعد [صمت أفواه المدافع ] مباشرة، نلتقطها من [الخطاب الساخن] للرئيس السوري بشار الأسد حين قال: إن المعركة الحقيقية ابتدأت الآن، وعلينا أن نحول النصر العسكري إلى نصر سياسي، وقال: إن المقاومة ليست نقيضاً للسلام بل هي والسلام جزء واحد!!
الإشارات الثلاث السابقة ترسم لنا ثلاثة خطوط متوازية تسير في اتجاه واحد إلى هدف واحد، وتكشف في الوقت نفسه وبوضوح شديد معالم الأيدولوجيات والاستراتجيات والتحالفات المستدامة، أو ما يمكن أن نسميه [عقيدة التثليث الجديدة] وأهدافها في المنطقة.
حزب الله.. التوسع بالذبح:
عندما كنت أشاهد ما تبثه نشرات الأخبار عن الحوار الوطني اللبناني، وأشاهد حسن نصر الله على المائدة المستديرة؛ كنت أشعر في ابتسامته بالاستخفاف، وقد علا وجهه الكثير من الريبة، فهاهي المائدة المستديرة تضم أطياف الشأن اللبناني يتناقشون في قضية قضية، ومسألة مسألة، ويتفقون ويتفقون، وكان الرجل يبيّت ما لا يعلمون، وكنت أقطع بأن هذا الحوار سينتهي إلى لا شيء، وعندما ناقشوا نزع سلاح حزب الله كان توقيتاً مناسباً لكي لا تنقلب طاولة الحوار فقط بل ينفجر لبنان بكامله في وجه الجميع.
قد يكون التوقيت مصادفة عند البعض، أما عند أصحاب النظرية التآمرية فإن له دلالات ورسائل لجهات متعددة، ونحن في هذا الحاضر الذي تمخض عنه تحولات ضخمة تؤثر في الحاضر والمستقبل معاً لا ينبغي لنا أن نستدعي [كل] التاريخ، لأن ذلك سيغرقنا فيه، وننسى ما ألم بنا، وما هو في قابل أيامنا، بيد أن التذكير بجزء من [التاريخ القريب] هام لتنشيط الذاكرة التي لم تعد تحتمل مزيداً من المآسي المتلاحقة والمستفحلة، والتي لا ينبغي لها أن تنسى رغم مرارة الآلام.
ففي 14/5/1986م نقلت صحيفة النهار عن محمد حسين فضل الله وهو الأب الروحي لحزب الله، وهو يخاطب جمهور المصلين في مسجد بلدة النبي عثمان قائلاً: وعلينا أن نخطط [للحاضر] و[المستقبل] لنكون [مجتمع حرب]، إن الحرب هذه مفروضة شأن كل الحروب التي يحل خوضها للإماميين، ولا يحل لهم خوض غيرها أ.هـ
والعقيدة الشيعة قائمة كلها على المصائب، واستدعاء المصائب، وتكرار المصائب، والنواح على المصائب، والاحتفال اللامنتهي بالمصائب، والانتقام بالمصائب، ويرون ألا نهاية لمصائبهم إلا بخروج مهديهم الذي ينتقم لها ولهم.
يقول صاحب [دولة حزب الله]: وإذا غدا استمرار الثورة - يقصد الثورة الإيرانية - ودوامها من بعد حدوثها إنجاز الثورة الأعظم؛ وجب تجديد الإعجاز كل يوم، والقيام بالثورة من غير انقطاع ولا تلكؤ، ولا يرتب تجديد الإعجاز حين تتصل الثورة الإسلامية الخمينية بين كربلاء وبين ظهور المهدي إلا إظهار الدلائل على قيام الثورة، وحفظ معناها، والحؤول بين هذا المعنى وبين الاضمحلال والضعف، ولا يتم ذلك إلا [بالإقامة على الحرب وفي الحرب]، وينبغي لهذه الحرب أن تكون الحرب الأخيرة ولو طالت قروناً لأنها تؤذن بتجديد العالم كله، وطي صفحة الزمان. ص 276
إذن نحن لا نستطيع بأي حال ببراءة كانت أو بسذاجة، أو بعاطفة أو تناسٍ أن نقتلع ما يقوم به حزب الله أو حزب الدعوة أو حزب الفضيلة، أو منظمة بدر, أو غيرهم من الأحزاب والمنظمات الشيعية من هذا السياق العقدي القائم على [التوسع بالذبح]، ولذلك لم يكن مستغرباً أبداً ألا يستنكر أو يندد [سيد المقاومة] حسن نصر الله بما يقوم به إخوانه في العراق من [ذبح] مئة ألف سني، و[تعذيب] المعتقلين، و[حرق] المساجد، و[تخريب] البيوت، و[تشتيت] الناس خارج قراهم ومدنهم، كل هذه [المصائب] التي جرها إخوة نصر الله على العراقيين لم تحرك له ساكناً، بل اصطف صفهم، ووصف [سيد المقاومة] المقاومين العراقيين بأن نصفهم صداميون، والنصف الآخر تكفيريون، أليسوا مقاومين لأمريكا وعملاء أمريكا وأذناب أمريكا كما تقاوم أنت أمريكا وعملاء أمريكا وأذناب أمريكا!!
ولا يعقل أن المطالبة بتحرير عميد الأسرى سمير القنطار أهم من حفظ الدم السني المسال في العراق، ولا يعقل كذلك أن من يدافع عن القضية الفلسطينية ويدعم القضية الفلسطينية، ويدندن حول القضية الفلسطينية؛ يترك أهل المخيمات الفلسطينية في العراق يذبحون ويهجرون على أيدي إخوان الطائفة والمرجعية الواحدة!!
وكيف يفسر حسن نصر الله قصر مطالبته بتحرير الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، وينسى أن يطالب سوريا وهي الجارة والحليفة أن تفرج عن المعتقلين السياسيين من الإسلاميين والشرفاء؟، كما ينسى أن يطالب إيران ولو بالكف عن سوء معاملة أهل السنة، والسماح لهم ببناء مسجد واحد على الأقل في طهران، كل هذا وغيره يجعلنا نشكك وبقوة في نوايا حزب الله اللبناني وقيادته، ومشروعه وارتباطاته وتحالفاته.
أبعد من الأسرى وأهم من شبعا:
ومن التاريخ القريب أيضاً نستدعي بعض الذكريات التي نسترجع بها علامات التحذير والإشارات الحمراء التي أضيئت في وجوهنا، وأغمضنا أعيينا عنها كي لا نتأذى بها، أو تركناها لتختبئ بين السطور الكثيرة التي لم نعد نقرأها، ومنها:
* في عام 1982 م اعتذر نائب وزير الخارجية الإيراني محمد عزيزي عن ضعف مشاركة القوات الإيرانية في القتال بلبنان بأن الطريق إليه تمر عبر العراق، فلا تصبح قوات إيران حرة تماماً في أن تلعب دوراً فعلياً وجوهرياً في لبنان إلا بعد سقوط النظام العراقي.
* وفي ذكرى أسبوع أحد موظفي السفارة الإيرانية ببيروت [مصطفى توراني] قال الشيخ حسن طراد إمام جمعة مسجد الإمام المهدي بالغبيري: إن إيران ولبنان شعب واحد، وبلد واحد، وكما قال أحد العلماء الأعلام: إننا سندعم لبنان كما ندعم مقاطعاتنا الإيرانية سياسياً وعسكرياً.
وبعد إحياء بعض التحذيرات القديمة التي آمل أن تبقى حية نعود لنقف على امتدادات ذلك التاريخ وتطوره الطبيعي:
يقول هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني السابق، ورئيس مجمع تشخيص النظام، والرجل القوي في إيران:
تعتقد إيران أن مساعدتها لحزب الله في لبنان [واجب مذهبي وثوري]، وأنها سوف تستمر في دعمه طالما ظلت أراضيه محتلة، أو [مهددة]، وأنها مع تقديرها للمواقف الشجاعة لشعب لبنان وحكومته في دعم جبهة المقاومة أمام محاولات التوسع للنظام الصهيوني تؤكد استمرار دعم إيران للمقاومة الشعبية في لبنان.
ويرتبط حسن نصر الله وأحمدي نجاد بعلاقة صداقة قديمة، فقد تدربا سوية - حسب مصادر أوروبية - في بلد آسيوي على أعمال استخباراتية، ثم عندما أصبح نصر الله أميناً عاماً لحزب الله جاء نجاد إلى لبنان مشرفاً على [مؤسسة الشهداء الإيرانية]، وعندما تم تنصيب نجاد رئيساً لإيران العام الماضي حضر نصر الله مراسم الاحتفال، ثم قفل عائداً إلى لبنان سريعاً بعد ثمانية أيام كاملة في إيران!! ويبدو أن يوماً واحداً لم يكن كافيا للتبريك وتبادل القبلات والأشواق.
ونبقى مع نصر الله أيضاً وفي يوم الجمعة 25- 11- 2005، وفي [حفل] أقيم في ضاحية بيروت الجنوبية بمناسبة [تسلم جثث] ثلاثة مقاتلين من حزب الله قال حسن نصر الله: حقنا الطبيعي أن نأسر جنوداً إسرائيليين، ومن واجبنا أن نفعل ذلك لمبادلتهم بلبنانيين لا يزالون معتقلين في السجون الإسرائيلية، وقال: إن إسرائيل اعتقدت أن 'لبنان تغير, وسوريا خرجت منه، وخروج هذه القوات بحسب فهمها أضعف المقاومة وإرادتها'، وأكد على أنه 'يجب أن يفهم كل العالم أن المقاومة الإسلامية ستواصل الطريق حتى تحقيق الأهداف، وحماية الوطن مهما كانت التضحيات.
وقد وفى نصر الله بوعده كما عهدته جماهير الأمة العربية، وضحى بأكثر من 1300 لبناني، وبضعة وستين مقاتلاً من حزبه البالغ عدده 8000 مقاتل!!
ونحاول هنا فك رموز أو غموض كلام نصر الله حول الحرب الأخيرة، هل تم استدعاؤها من قبل حلفاءه، أم أن كانت مجرد عملية أسر عادية، ولم يكن يتوقع تداعياتها، أو لم يكن يفهم العقلية الصهيونية التي يحاربها منذ عقود!!؟
ففي حواره مع صحيفة السفير اللبنانية بتاريخ 5/9/2006م قال ما نصه: 'أنا كنت واضحاً، وقلت: إن الحرب ليس سببها عملية الأسيرين، الحرب هي قرار أميركي إسرائيلي، ومغطى من أماكن معينة، والحرب مجهزة ويستكمل التجهيز لها و[التوقيت محدد]، وكانت تعتمد على عنصر المفاجأة بشكل أساسي ولها سيناريو، وحتى إن السيناريو الذي طبق ليس هو المقرر.
عندما حصلت عملية الأسيرين وسقط هذا العدد من القتلى استُفز الإسرائيليون، ووجدوا أنفسهم أمام واقع إما أن يتحملوا ما حصل، أو يذهبوا إلى المعركة [المقررة في أوائل الخريف] معلوماتنا أنه بعد التشاور مع الأميركيين في اليوم الأول تقرر الذهاب إلى المعركة التي "كانت معدة للتنفيذ في تشرين"، نحن أفقدناهم عنصر المفاجأة [فرضنا عليهم توقيتاً غير التوقيت الذي أعد له بدقة، وبالتالي حصلت المعركة ونحن مستنفرون ومتهيئون]، وهم ليسوا جاهزين.
الحرب التي كانت ستبدأ في تشرين كانت ستبدأ بشكل مفاجئ جداً، ومن دون أي ذرائع'، ويضيف نصر الله: 'نعم الأسر استغل لتوقيت الحرب، وبرأينا هذا كان من مصلحتنا ومصلحة لبنان، وأنه استعجل حرباً كانت ستحصل بشكل قاطع ولذلك إذا كنت أريد أن استعمل عبارات لا يمكن اجتزاؤها أو اقتطاعها أنا أقول: لم نخطئ التقدير، وكانت حساباتنا دقيقة وصحيحة، وأيضاً لسنا نادمين!! وأنا لم ألق خطاب ندم أو هزيمة، وأعتقد أن هذا قلته أكثر من مرة أن ما حصل في توقيت وقرار العملية وما أدت إليه كان توفيقاً إلهياً ولطفاً إلهياً، [ولو أننا لم نذهب إلى تلك العملية وبقينا غافلين إلى تشرين] لكان لبنان غير لبنان، لذلك أكرر وأقول لسنا نادمين ولم نرتكب أي خطأ، وكانت تقديراتنا صحيحة، وأن ما حصل هو أهم بكثير من التقديرات التي كنا نتحسب لها' أ. هـ
إذن فالكلام الذي جاء بعد وقف إطلاق النار مع تلفزيون الجديد من أنه لم يتوقع أن تؤدي عملية الأسر لما أدت إليه، وأنه لو كان يعلم ولو واحد بالمئة لما خاضها كلام كاذب ومخادع، ولعب بدماء اللبنانيين قبل عقولهم ومشاعرهم.
وانسجاماً وتوافقاً مع كلام حسن نصر الله من [استدعاء الحرب] وجر إسرائيل إليها؛ فقد كانت هناك أحاديث دولية متفرقة حول هذا الاستدعاء.
ففي تاريخ 6 /1 /2006م أي قبل ستة أشهر من اندلاع الحرب المستدعاة كتبت مديرة مكتب جريدة الحياة في نيويورك مقالاً بعنوان: سيناريوات لـ«استدعاء» ضربة عسكرية للبنان وسورية، جاء لينبه إلى إعدادات واستعدادات وسياسات خطيرة كانت تصنع حينذاك، تقول فيه: يتحدثون في الأوساط الدولية عن سيناريوات تدق في عصب القرارات «الوجودية» لكل من النظام في سورية، ولـ«حزب الله»، ويحذرون من عواقب ضرب مدن إسرائيلية عبر الحدود اللبنانية على كامل سورية ولبنان، هذا الكلام ليس عشوائياً وإنما ينطلق من مؤشرات على أرجحية لجوء دمشق إلى إجراءات استدعاء ضربة عسكرية إسرائيلية للبنان وسورية.
وتضيف: أهم حلقة في الإجراءات على الساحة اللبنانية وعبرها هو «حزب الله» الذي يمتلك أدوات تنفيذ الإجراءات أو تعطيلها، لذلك فإن مسؤولية توريط لبنان في قصف أو غزو إسرائيلي له تقع على أكتاف قيادة «حزب الله» التي عليها أن تختار اليوم بين تحصين لبنان ضد الاستخدام والانتقام، وبين التضحية به خدمة لسورية أو لإيران.
القيادتان في هاتين الدولتين قد تجدان أن من مصلحتهما في هذا المنعطف استفزاز إسرائيل عبر «حزب الله»، إما لتحويل الأنظار والضغوط عليهما، أو لحشد العاطفة المعادية لإسرائيل لتخدمهما محلياً وإقليمياً، أي عمليات عبر الحدود اللبنانية - الإسرائيلية يقوم بها «حزب الله» في هذه المرحلة ستعد قراراً مدروساً لاستدعاء قصف لبنان، وأي تشجيع سوري لمثل هذا التطور سيعد رغبة مبيتة لاستفزاز قصف إسرائيلي لسورية أيضاً يؤدي إلى تمكين دمشق من أن تعلن أمام العرب أنها في حال حرب مع إسرائيل، أما إيران فإنها حسب قول علي لاريجاني الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني «وضعت سيناريو للرد» على محاولات إجبارها على التخلي عن تخصيب اليورانيوم، وخططت لـ«جر المنطقة إلى حرب» حسب تعبيره حينذاك، و«هذا تماماً ما تداولته الأوساط الدولية من سيناريو حرب إقليمية لإشعال المنطقة تستدرجها طهران، وتستفزها سورية» بما «يقتضي تفجير العلاقات اللبنانية - اللبنانية الطائفية منها والحزبية، واختلاق مشاكل على الصعيد اللبناني الداخلي».
لو أضفنا الكلام السابق خاصة كلام علي لاريجاني إلى ما صدرته في المقدمة من كلام حسين شريعتمداري حين قال: إن حزب الله لا يقاتل من أجل السجناء، ولا من أجل مزارع شبعا، أو حتى القضايا العربية أياً كانت في أي وقت، وإنما من أجل إيران في صراعها الحدودي لمنع الولايات المتحدة من إقامة شرق أوسط أمريكي!!، وضممنا إليه كذلك كلام الرئيس السوري: إن المعركة الحقيقية ابتدأت الآن، وعلينا أن نحول النصر العسكري إلى نصر سياسي، وقال: إن المقاومة ليست نقيضاً للسلام بل هي والسلام جزء واحد!! ثم راجعنا كلام حسن نصر الله في بداية الحرب حين قال أن [قواعد اللعبة] قد تغيرت، وهي ما يعني وجود [قواعد متفق عليها]، ووجود [اتفاق على اللعب بالمنطقة] لأدركنا بوضوح وجلاء أن ما كان تاريخاً أصبح واقعاً، وأن الواقع صنع في التاريخ، وأن المنطقة الآن توشك أن يكتمل فيها الهلال الشيعي من البحرين حتى لبنان.
وينبغي لنا هنا أن نتساءل: لماذا مقاومة حزب الله غير مستدامة طالما أن هناك عدو ينبغي أن يزول كما هو الحال في فلسطين والعراق؟ الأهم من ذلك أنها لا تأتي إلا متزامنة مع ظروف سياسية، ومع الحاجة إلى أوراق جديدة لفك أزمة أو تحريك جمود في المواقف، ولماذا توقفت [الحرب المفتوحة] التي أعلنها نصر الله فجأة؟ رغم أن الجيش الإسرائيلي ما زال موجوداً في الجنوب، وحصاره البحري والجوي بقي حتى منتصف شهر سبتمبر 2006، وأصبح أقصى ما أراده حزب الله هو قرار دولي لوقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، أين ما قاله نصر الله [حرب مفتوحة... أردتموها حرباً مفتوحة؟ نحن ذاهبون إلى الحرب المفتوحة، ومستعدون لها... إلى حيفا وإلى ما بعد حيفا]!! ولماذا لم تضرب المنشآت الكيماوية في حيفا؟ ولماذا لم تقصف تل أبيب طالما أنها في مرمى صواريخ حزب الله؟ ثم لماذا يقاتل حزب الله دفاعاً عن مزارع شبعا وهي أرض سورية؟ ولماذا يذبح اللبنانيون من أجل مزرعة جارهم الصغيرة، ويسكت الجار عن كامل الجولان المحتل؟!
وقواعد اللعبة التي ذكرها نصر الله يقصد بها اتفاق التفاهم الذي تم قبل الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000م، والذي كان أبرز بنوده ما تم نشره بعد تسريبه في صحيفة شبيجل الألمانية يوم 13/6/2004 م، وكما جاء في نص الوثيقة التي وصلتني نسخة مترجمة لها كانت بنود الاتفاق كما يلي:
المرحلة الأولى من الاتفاق: تشكيل لجنة أمنية من ميليشيا حزب الله وجيش الدفاع الإسرائيلي لوضع خطة ميدانية لترتيب عملية انسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي بإشراك بعض الضباط الأمنيين في الجيش اللبناني الذين يختارهم الحزب.
المرحلة الثانية بند [أ] يقوم الجيش الإسرائيلي بسحب قواته كافة من كامل الأراضي اللبنانية، والحزام الأمني إلى الحدود الدولية في مدة لا تتعدى ثلاثة أشهر تحت إشراف ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وفقاً للقرارات الدولية المتعلقة بجنوب لبنان، وإنهاء حالة الحرب هناك، كما يقوم جيش الدفاع الإسرائيلي بحل وتفكيك مليشيات جيش لبنان الجنوبي، ولا يشمل الانسحاب مزارع شبعا على أساس أنها أرض سورية مرتبطة أمنياً بهضبة الجولان، وأمن دولة إسرائيل.
فقرة [ب] تقوم ميليشيا حزب الله بتسلم المواقع العسكرية والأمنية من جيش الدفاع الإسرائيلي, وجيش لبنان الجنوبي فوراً بعد إخلائها للحيلولة دون وقوعها بأيدي منظمات فلسطينية أو إرهابية معادية لإسرائيل.
فقرة [ت] يتعهد الجيش الإسرائيلي إطلاق سراح أسرى ميليشيا حزب الله ممن استكمل معهم التحقيق, على أن يتم إطلاق الشيخ عبد الكريم عبيد في مرحلة لاحقة بعد تسوية وضع الطيار الإسرائيلي، وسيقوم الوسطاء الألمان بمعالجة هدا الملف.
فقرة [ج] يتعهد الجيش الإسرائيلي بعدم استهداف أعضاء أو مؤسسات تابعة لهذا الحزب, وأن يسمح للحزب بتحريك أسلحته الثقيلة في المنطقة الحمراء للحفاظ على الأمن والهدوء.
فقرة [د] أن تعمل ميليشيا حزب الله على الانتشار في المنطقة الحمراء كلها {الحزام الأمني} حتى الشريط الحدودي بين لبنان ودولة إسرائيل، وإحلالها مكان ميليشيا جيش لبنان الجنوبي بعد حل الأخرى.
فقرة [و] أن يعمل الحزب على ضمان الأمن في هذه المناطق التي ستصبح تحت سيطرته, وذلك {بمنع المنظمات الإرهابية من إطلاق الصواريخ على شمالي إسرائيل}، ووقف التسلل, واعتقال العناصر التي تهدد أمن حدود إسرائيل الشمالية، وتسليمهم إلى السلطات اللبنانية لمحاكمتهم، كما يتعهد الحزب بمنع الأنشطة العسكرية وغير العسكرية لمنظمات إرهابية فلسطينية أو لبنانية معادية لإسرائيل في المنطقة الحمراء، يتعهد حزب الله بالمساعدة في جمع وتقديم المعلومات عن الطيار الإسرائيلي {كوخاي} الذي اختفى في لبنان أثناء الحرب.
فقرة [هـ] تنسق الحكومة اللبنانية والسورية مع حزب الله على تنفيذ الاتفاق، كما تتعهد إيران بكونها المرجع والمؤثر القوي لحزب الله بضمان الاتفاق، والمساهمة الفعالة في تثبيت الأمن في هذه المنطقة, وتتعهد الحكومة اللبنانية والسورية {بعدم ملاحقة أو محاكمة أعضاء جيش لبنان الجنوبي}، وأن تقدما المساعدة على دمجهم بالمجتمع، وتوفير المساعدة والحماية اللازمة لمن يرغب منهم العودة إلى بيته، وبناء عليه ستقوم كل من إيران وأمريكا بالسعي لحل مشكلة الأموال الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة التي تطالب بها إيران. أ هـ
وبسبب هذه التسريبات [المحرجة جداً] لحزب الله يحاول الحزب الآن في مفاوضاته القادمة مع اليهود التشديد على كتمان الأسرار، فعندما سئل غسان بن جدو حسن نصر الله في مقابلة خاصة مع قناة الجزيرة بتاريخ 12/9/2006م: السؤال المركزي الآن هل حزب الله سيطالب فقط بالأسرى اللبنانيين أم سيطالب بغير اللبنانيين أيضاً؟
أجاب حسن نصر الله: أنا أفضِّل يعني واحدة من مشاكل المفاوضات السابقة أنه رغم أنه نحن حرصنا كثيراً يعني على عدم الدخول في شأن وتفاصيل مفاوضات في الإعلام لكن التسريبات اللي صارت في الطرف الإسرائيلي أدت إلى تعقيد عملية التفاوض، وأنا بأعرف نتيجة مواكبة المفاوضات السابقة أنه أكثر من مرة نتفق على شيء يرجع يتخرب من خلال تسريبه إلى وسائل الإعلام، أنا أفضِّل في هذه المفاوضات وحرصاً على الهدف والهدف معروف على كل حال يعني إحنا هدفنا إنساني بالدرجة الأولى أن نحتفظ في هذه المفاوضات بكل شيء ليبقى في الغرف المغلقة [حتى لا نحرج أنفسنا]، ولا نحرج أحداً، أنا أعرف أن الناس يحبون أن يسمعوا بعض الوعود، وبعض التطمينات، الأمور بخواتيمها، وأنا حتى قلت للإخوان يعني للفريق الذي سيباشر التفاوض من طرفنا قلت لهم: عندما تلتقون بهذا الوسيط أول شرط يجب أن تضعوه هو أن يأخذ التزاماً من الطرف الإسرائيلي بعدم تسريب مجريات التفاوض إلى وسائل الإعلام، وعندما يحصل أي تسريب ستتوقف المفاوضات، وأنا هذا أؤكد عليه، مفاوضات سليمة تؤدي إلى أفضل النتائج هي التي تبقى بعيداً عن الإعلام.
وعندما كان صبحي الطفيلي الأمين العام الأول لحزب الله يردد دائماً أن المقاومة اللبنانية تحولت إلى حامية لحدود إسرائيل الشمالية؛ كان البعض يعد ذلك تصفية لحسابات قديمة بين الرجل والحزب الذي أقيل من رئاسته، ما قاله الطفيلي شهدت به إسرائيل لحزب الله، فقد امتدحت جريدة هآرتس في 6/7/2006 م الأمين العام للحزب بسبب عقلانيته وتحمله للمسؤولية، وأنه حافظ على الهدوء في الجليل الأعلى بشكل أفضل من جيش لبنان الجنوبي، وهو اليوم يتعقل فلا يضرب المنشآت الحيوية لإسرائيل كما صرح بذلك.
حزب الله في المشروع [التمدد] الجديد:
لخص دبلوماسي غربي مناكفات حزب الله في المنطقة بقوله: إن حزب الله هو الباب الذي يمكن لإيران أن تدخل منه إلى منطقة الشرق الأوسط، بمعنى أن إيران لن تتنازل عن هذه الورقة قبل أن تتوصل مع الغرب إلى اتفاق يضمن لها أمنها.
وعقب الانسحاب الإسرائيلي مباشرة من لبنان عام 2000 قال حسن نصر الله: هناك سورية التي لا يستطيع أحد أن يتحدث عن النصر بمعزل عنها، لأنها ومنذ سنة 1982م وقفت إلى جانب المقاومة، وساندتها وحمتها، مساندة سوريا عمل أساسي في هذا النصر، وعندما نتحدث عن النصر يجب أن نتحدث عن الجمهورية الإسلامية في إيران، وهي وقفت منذ 1982م إلى جانب المقاومة، ودعمتها وساندتها وحمتها.[5]
وفي حوار نصر الله مع قناة الجزيرة 21/9/2006م قال: 'الذي يقول أنا مع محور إيراني سوري، أنا لا أستحي من التحالف، وهم يتحالفون ويستحون بتحالفاتهم، أنا على رأس السطح أقول أنا صديق لسوريا، وحليف لسوريا، وأتعاون مع سوريا، ويوجد أمور مشتركة بيننا وبينهم، أي نعم بيهمنا سوريا وإيران أصدقاؤنا وحلفاؤنا وأحباؤنا وأعزاؤنا، ونعتز بهم ونفتخر مش خجولين '.
ولكن يبدو أن نصر الله خجل جداً عندما اعتذر عن تلبية الدعوة لزيارة السعودية قبل الحرب، بل بكل شجاعة قال أنه الحزب الوحيد في لبنان المستقل عن أي محور أو دولة!!، فقال في حديثه مع صحيفة السفير 5/9/2006م 'أنا فهمت في المقابل أن بعض المسؤولين في المملكة يعتقدون أن ما يحول دون تلبيتي للزيارة توصيات إيرانية وسورية، هذا غير صحيح نهائياً [على كل حال سوف تأتي الأيام، وتثبت أن أكبر حركة سياسية استقلالية في لبنان عن أي محور أو دولة هي حزب الله].
وهذا الكلام بطبيعة الحال ينافي تماماً مع المسلمات المعلومة عن الحزب بالضرورة والواقع، ولهذا وعقب هذه العبارة مباشرة أفاق الرجل من غفلته أو غلطته وقال مصححاً: 'ولو لكن أريد أن أصحح الاستنتاج الخطأ لدى بعض المسؤولين في المملكة وأقول لهم أنه [عندما عرف الإيرانيون والسوريون بوجود الدعوة بادروا إلى تشجيعي على تلبيتها!!]، وقالوا أن ذلك من شأنه تطوير العلاقات أكثر مع المملكة، وذلك على عكس ما يظن بعض المسؤولين السعوديين'.
وقد كان لافتاً جداً وفجاً جداً وسريعاً جداً تصريحات القيادتين السورية والإيرانية عقب إعلان الانتصار على العدو الصهيوني!! ولم يتركوا [سيد المقاومة] يعرب عن فرحته بالانتصار أولاً، بل جعلوه يعتذر ويأسف لكل ما حدث للبنان.
ففي الوقت الذي شن فيه الرئيس بشار الأسد هجوماً عنيفاً على كل ما هو عربي، وعلى أنصاف الرجال، وأنصاف المواقف والمصنوعين إسرائيلياً، قال: [إن المقاومة ليست نقيضاً للسلام بل هي والسلام جزء واحد!!]، وقد ذكرني هذا الخطاب بموقف الرئيس أنور السادات بعد حرب [التحريك] أكتوبر 1973م في خطاب الانتصار أيضاً حين قال: إن أيدينا ممدودة للسلام!!
وعلى الجانب الإيراني فقد صرح رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإيراني 'اللواء فيروز آبادي' أن إيران لن تدخل الحرب الدائرة في لبنان بين إسرائيل وحزب الله، وقد لاقى ذلك التصريح ارتياحاً إسرائيلياً بالغاً حسب ما ذكرته صحيفة هآرتس ونشرت ترجمته الصحافة الإيرانية.
كما صرح وزير الدفاع الإيراني اللواء مصطفى محمد نجار في كلمة في مدينة همدان: إن الجمهورية الإسلامية تعمل على استقرار الأمن، وترسيخ الصلح والمحبة بين دول المنطقة!! ثم تلا هذه التصريحات الودودة جداً والمحبة للسلام ما كان أكثر منها وداً أو بالأحرى طلباً للود والتي جاءت من الرئيس الإيراني أحمدي نجاد أثناء افتتاحه لمنشأة أراك لإنتاج الماء الثقيل، والتي قال فيها: إن إيران لا تمثل تهديداً للدول الأجنبية ولا حتى لإسرائيل!!
ثم تلا ذلك زيارة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي لواشنطن، وإلقاؤه كلمة في أحدى كنائسها عن السلام، وحوار الأديان، وتبشيره الغرب بأن منفذي هجمات 11 سبتمبر لن يدخلوا الجنة!!، وهو بذلك يكون أول مسئول إيراني رفيع المستوى يزور واشنطن منذ قيام الثورة الإيرانية.
كل هذه التحركات والتصريحات تصب في خانة واحدة، وفي اتجاه واحد، ولصالح مشروع واحد، وهو مشروع من يشكل صورة المنطقة، ويسيطر عليها في المرحلة القادمة.
وقد كان [استدعاء الحرب] من قبل سوريا وإيران، وإحراق لبنان؛ يهدف إلى إيصال عدد من الرسائل الملوثة بالدم والمعطرة برائحة الموت إلى عدد من الأطراف في المنطقة والفاعلة فيها، ومن هذه الرسائل:
أولاً على الجانب السوري:
أن دمشق بعد الانسحاب المهين من لبنان بقرار دولي، والحديث عن أن سوريا أو حلفاءها في لبنان لم يعد لا لها ولا لهم أي تأثير في الشأن اللبناني؛ أرادت أن تثبت للجميع لبنانياً وعربياً وإسرائيلياً ودولياً أنها ما زالت ممسكة بأهم أوراق اللعبة في لبنان، وأن بيدها تحريك أدواتها في لبنان متى شاءت، وأنها تستطيع أن تجر على لبنان ما هو أكثر من سجالات أو فتنة سياسية، ومناطحات حزبية بين مُواليها ومعارضيها، وهذه كانت رسالة موجهة إلى الداخل اللبناني في المقام الأول.
الرسالة السورية الثانية كانت موجهة إلى الجانب الإسرائيلي والتي جاءت واضحة في شقها الأول بأن سوريا ما زال لديها القدرة على إزعاج إسرائيل بشكل يهدد أمنها ومواطنيها ومستوطناتها، وذلك بتوجيه الأوامر لحزب الله بافتعال أزمات متكررة تبقي الصداع الإسرائيلي مستمراً، كما أن السلاح الإيراني سيظل يتدفق على حزب الله عبر الحدود السورية، وقد فهمت إسرائيل هذه الرسالة، فلم توقف الحرب حتى دكت أغلب البنى التحتية العسكرية والتعليمية والصحية والمؤسسية لحزب الله، حتى أنها لم تترك بيت حسن نصر الله ومقره العام.
الشق الثاني من الرسالة السورية الموجهة لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة أنه وبرغم أنها قادرة على إزعاج إسرائيل عبر لبنان إلا أنها لا تريد حرباً حقيقية مع إسرائيل، كما أن إسرائيل لا تريد هذه الحرب، وقد لوحظ أنه لم تسجل في الحرب الأخيرة سوى غارة إسرائيلية واحدة على الحدود السورية، وقد سارعت الدولتان السورية والإسرائيلية لنفي حدوث ذلك، وأعاد السوريون نفيهم بوقوع أي غارة إسرائيلية داخل أراضيهم، وكانت الرسالة تتضمن أن سوريا بيدها لجم حزب الله إذا أرادت، وقد مدت سوريا يدها بالسلام عبر [الحرب بالوكالة]، فينبغي لمفاوضات السلام أن تعود بعد أن انقطعت، ولكن مع تغير في قواعد اللعبة فرضته الحرب الأخيرة، ولذلك فقد كان استخدام سوريا لحزب الله هو لتحسين ظروفها التفاوضية مع الإسرائيليين، وتحسين ظروف تفاوض حليفتها إيران مع الولايات المتحدة كما سيأتي.
الرسالة السورية الثالثة كانت موجهة للدول العربية بشكل مباشر وصريح بأن سوريا قد حسمت تأرجحها بين قوميتها العربية وتحالفاتها الطائفية الاستراتيجية، وأن نصيبها من كعكة السيطرة القادمة على المنطقة مضمون بالانضواء تحت العمائم السوداء، فهم سادة المنطقة الجدد، وستكون الجسر الذي تكمل به إيران طريقها من البحر الأسود إلى البحر المتوسط.
ثانياً: على الجانب الإيراني:
أرادت إيران في رسالتها الأولى من هذه الحرب أن تقول للشعوب العربية والإسلامية أنها ما زالت العدو الوحيد الذي يواجه الاستكبار الصهيوني في المنطقة، رغم أنها حرب خاضها بعض صنائعها على بعد مئات الأميال عن أراضيها.
الرسالة الثانية كانت موجهة مباشرة إلى إسرائيل، فالصواريخ التي استخدمها حزب الله وأصابت أهدافاً إسرائيلية بدقة قالت إيران من خلال ذلك أنها غير مضطرة لاستخدام صواريخها بعيدة المدى للهجوم على إسرائيل، وأن الجنوب اللبناني أقرب بكثير لتل أبيب من طهران وهمدان.
ومما وجه لإسرائيل والولايات معاً أن إيران يمكنها في ظل التراجع الكبير للدور العربي في القضية الفلسطينية أن تلعب دوراً فاعلاً في [حل نهائي] حال الاتفاق معها.
كانت الدول الغربية واعية لأهداف حرب الوكالة لحزب الله، فقد قالت كوندليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية إنها ترى النزاع في لبنان كأنه حرب أوسع حول من يفرض أجندة الشرق الأوسط الجديد، وعلى خطى هذا الفهم تحدث توني بلير رئيس الوزراء البريطاني عن وجود «قنطرة من عدم الاستقرار» تمتد من شمالي أفريقيا إلى المحيط الهندي، ووصف الحرب في لبنان بأنها جزء من نزاع بين الديمقراطيات الغربية، والإسلام المتطرف.
لكن اللافت للنظر أنه لم تكن هناك اتهامات غربية واضحة لإيران بوقوفها وراء هذه الحرب، بل جاءت اتهامات إسرائيلية تحدثت عن وجود جثث لقتلى من الحرس الثوري الإيراني بين قتلى حزب الله، ولكن الولايات المتحدة نفت ذلك؛ فقد نشرت صحيفة 'نيويورك تايمز' الصادرة في الثالث من أغسطس الماضي تقريراً استخبارياً أمريكياً يؤكد عدم وجود مثل هذا التدخل!!
الرسالة الإيرانية الثالثة جاءت لا لترد على الآراء الغربية بل لتتوافق معها وحرفياً، فقد جاء على لسان علي أكبر ولايتي مستشار [المرشد الأعلى] حالياً، ووزير الخارجية الإيرانية لمدة 16 عاماً ما نصه: إنه بإطاحة نظام طالبان في كابل ودكتاتورية البعث في بغداد خلقت الولايات المتحدة فرصة تاريخية لإعادة صياغة الشرق الأوسط، ومع رحيل طالبان وصدام حسين تشعر إيران بالأمان على حدودها، ويمكنها أن تنتقل إلى الهجوم سعياً لتحقيق طموحاتها الإقليمية.
وسبقه في إيضاح الطموح والسعي الإيراني لتنفيذ مشروعها التوسعي الكبير مستشار [المرشد الأعلى] أيضاً حسين شريعتمداري، وفي افتتاحيته التي اقتبست منها آنفاً، حيث يقول: إنه بسقوط الشيوعية فإن مهمة تحدي الغرب «الكافر» تحت زعامة الولايات المتحدة في تحديد الأجندة العالمية قد انتقلت إلى الجمهورية الإسلامية وأيديولوجيتها الخمينية.
كما أكد أيضاً في حوار أجرته معه مجلة نيوزويك الأمريكية؛ أن إيران تلعب دوراً محورياً في بناء نظام الشرق الأوسط الجديد، ومفاد هذه الرسالة للولايات المتحدة أولاً إن ما أرادت أمريكا تحقيقه في أفغانستان والعراق ما كان ليحدث لولا التفاهمات والمساعدات الميدانية الإيرانية، وما تزال طهران تمسك بزمام الورقة العراقية، وإن أرادت إزعاج الولايات المتحدة فيكفيها أن يتراجع السيستاني عن فتواه بتحريم قتال الأمريكان!!، كما يمكن استمرار حزب الله في المناوشات على الحدود مع إسرائيل، ولذلك: فعلى الولايات المتحدة أن تتفاهم وتتعامل مع إيران كشريك أساسي في رسم الشرق الأوسط الجديد على أنها القوة الإقليمية الرئيسية في المنطقة.
وإيران مع ذلك غير مستعجلة للتفاهم السريع مع الغرب، فهو يعني تقديم تنازلات قد تكون كبيرة، والقيادة الإيرانية تراهن فيما تراهن على انتظار مغادرة الرئيس الأمريكي البيت الأبيض، وانسحاب عسكري أمريكي من المنطقة، مما يخولها وحلفاءها الاستفراد بالمنطقة، كما أن إيران تسير بخطى منتظمة نحو امتلاك السلاح النووي، ولو أضيف السلاح النووي إلى السلاح النفطي الذي تملكه لكان الناتج يساوي دولة عظمى.
مستقبل حزب الله:
هتفت جماهيرنا العربية بحياة جمال عبد الناصر بعد [نكسة] 1967م، ولم يرتضوا عنه بديلاً حين تنحى عن الحكم، وفي لبنان شاهد حسن نصر الله حجم التدمير والحقد الصهيوني في الأيام الأولى للحرب، ورغم ذلك أصر على الاستمرار حتى تأتيه أوامر التوقف، ثم جاء يهزأ من الجميع ويقول: لو كنا نعلم أن خطف الجنديين سيؤدي إلى ما حدث ولو واحد في المئة لما أقدمنا عليه، ورغم [الاعتذار] والقتل والتشريد، والتهجير والتخريب؛ خرجت الأمة تغني للانتصار المجيد!!
وبعد [مراوغة الاعتذار] المفضوحة فتح ملف مستقبل حزب الله، ومما لا شك فيه أن بقاء حزب الله مرتبط بتنفيذ دوره المناط به من قبل سوريا وإيران، وحتى الآن لم يتحقق لكلا البلدين ما سعيا للوصول إليه بأداة حزب الله، ومما لا شك فيه أن الموقف الإيراني يزداد قوة، وهذه القوة ستلقي بظلالها على حزب الله، وسوريا خرجت جريحة من لبنان، ولا يوجد لها حلفاء في لبنان بقوة حزب الله، وتصفية هذا الحزب يعني النهاية التامة للدور السوري في لبنان، وهو ما لا تريده دمشق.
كما أن الحزب يعد أنجح الأذرع الإيرانية في المنطقة، وقدم خدمات جليلة للطائفة الشيعية بأسرها، وكانت تجربته جديرة بالاستنساخ في دول أخرى تسعى إيران لغرس مخالبها فيها، وللحزب حضور إعلامي قوي بين جماهير المسلمين، وهو تأثير بالغ الخطورة حيث تلوثت مفاهيم كثيرة ليس للعوام فحسب بل لدعاة ومثقفين، وهذا التأثير مطلب شيعي لنشر المذهب.
مما سبق يجعلني أقول: إنه من الصعب التضحية به أو ذبحه كما يقال على الأقل في المدى القريب، فأبعاد العلاقة بين حزب الله وإيران تختلف كلية عن شيعة الأهواز العرب، أو بعض العشائر الشيعية العربية في العراق، أو شيعة أذربيجان الأتراك، لكن سيكون على الجانب الآخر خصوم وأعداء ومناهضو المشروع الإيراني وذراعه اللبناني الذين يدركون أبعاد المشروع التوسعي ودور حزب الله فيه، ولن يتوقفوا عن محاولات وضع العصي في عجلات هذا المشروع لإيقافه أو تفجيره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق