بقلم الشيخ الدكتور طه حامد الدليمي
قبل يومين طلب مني الأخ المدير العام لموقع (القادسية) كتابة شيء عن (الاتفاقية الأمنية) لاسيما بعد التطورات الأخيرة. قلت له: "كتبت بما فيه الكفاية: (الطائفي والوطني في موقف الشيعة من الاتفاقية...) في آيار (مايو) الماضي، (استحقاقات الطائفة والسلطةفي موقف الحكومة من الاتفاقية...) قبل حوالي شهر. وقبل أيام: (أبعدوا الدين عن هذه المهزلة)؛ فاكتبوا أنتم إن شئتم". موقعنا ليس موقعاً إخبارياً أو سياسياً ليكون معنياً بمتابعة الأحداث إلى هذا الحد، إنما هو يعنى - كما معلن على الصفحة الرئيسة - ببيان المنهج والأسلوب الأمثل في التعامل مع التشيع، فتناولنا للأحداث - حين نجد ضرورة منهجية ونملك الوقت - من هذه الزاوية، وعلى قاعدة استخلاص ثابت (المنهج وما تعلق به) من متحرك (الحدث). وبذلك يمكن أن ندلل على صحة المنهج من خلال الحركة المستمرة للزمن؛ ويكون الزمن أحد عناصر المعادلة في مسيرة التغيير.
لكن ما سمعته اليوم على قناة (الشرقية) دعاني لأن أقول كلمة ناطقة في زمن الكلام الصامت؛ لعلي أزيل التباساً يراد له أن يكون بين حق وباطل في زمن اختلاط المفاهيم والتباس التعاليم. والله تعالى ينادي من عليائه ويقول: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:42)
كل الكتل السياسية كانت واضحة في موقفها من الاتفاقية: رفضاً أو قبولاً، إلا جهتين: المرجعية ممثلة بالسيستاني (والمرجعية - لمن لا يدري - جهة سياسية مبرقعة بالدين)، وجبهة التوافق. أما المرجعية فقد كتبتُ عن أنها ستنتهي إلى موقفها الغامض هذا منذ أن كانت التصريحات تصدر عنها بالنفي، وقلت في مقالة (استحقاقات الطائفة...): "وأما السيستاني فسيضفي عليها نوعاً من المشروعية بضبابية تتيح للحكومة مجالاً للتحرك المقبول في توقيعها، وتتيح له – كالعادة – التنصل من تبعتها، وتمكين المهوسين من القول بأنه كان ضدها، أو معها حسب متطلبات الموقف". وأما جبهة التوافق فأشهد أن عقلي - وأنا أتكلم عن نفسي - وقف عاجزاً عن إدراك موقف واضح محدد لها من الاتفاقية! وآخر ما تفتقت عنه الذهنية التوافقية ما سمي بـ(وثيقة الإصلاح)، التي تشترط إجراء استفتاء شعبي عليها، ولكن متى؟ في حزيران المقبل! هذا وقد وقع مجلس النواب في نهاية الأسبوع الماضي على تمريرها!! ومجلس النواب – طبقاً للدستور – يمثل الشعب. فما معنى الاستفتاء؟!
المفارقة في موضوع الاستفتاء الشعبي أنه فيما لو ظهرت النتيجة بالرفض فإن الاتفاقية تبقى سارية المفعول سنة أخرى حتى تتوقف إجراءات العمل بها! كل هذا وتقرأ هذه العبارة: "الحزب الإسلامي: للشعب مراقبة تنفيذ الاتفاقية الأمنية خلال الأشهر السبعة القادمة ويكون له البت فيها عبر الاستفتاء" على الشريط المتحرك لقناة (بغداد) هذا اليوم أيضاً. أي شعب هذا الذي يتحدثون عنه، ويوقعون باسمه، ووزيرة الخارجية الأمريكية السيدة رايس (أو السيد الريس) تقولها صراحة: "إن العمل بالاتفاقية جارٍ سواء وقع عليها المجلس أم لا"؟! مسكين.. أيها الشعب المسكين!
ونحن نسأل - وبصرف النظر عن جميع الحيثيات الأخرى - ما هو الضمان، ومن هو الضامن لتنفيذ بنود الاتفاق؟ وأمامنا الحجة التي أدلى بها (الحزب الإسلامي) يوم وافق على تمرير الدستور، وهي أنه استحصل موافقة دستورية على إمكانية تعديل أي فقرة من فقرات الدستور بعد أربعة أشهر - بدلاً من ثماني سنين - من توقيعه. وها هي السنة الثالثة شارفت على الانتهاء ولا من تعديل ولا تبديل! رغم أن الدستور وصل إلى حد التفسخ بحيث صار نوري المالكي يدعو إلى تعديله!
كل هذه الحيثيات أعرضت عنها، وقلت: يكفي ما قاله غيري. حتى سمعت ظهر اليوم ما يلي في نشرة أخبار قناة (الشرقية): "الأستاذ طارق الهاشمي يريد توجيه رسالة شكر لآية الله علي السيستاني لموافقته على (وثيقة الإصلاح)، ويعتبر ذلك بمثابة مباركة المرجعية للوثيقة". قلت: هذا الذي يدعوك لأن تخلع سترة الصمت، وتبيع القدر الوحيد في بيتك!
لو اكتفى الرجل برسالة الشكر لقلنا: مجاملة اقتضتها سياسة يسوغها الظرف. أما ومعها التطلع إلى (مباركة المرجعية) ومن الأمين العام لحزب إسلامي سني! فلا أدري على أي إسلام يصح هذا؟! وأي مباركة ترجى من شخص يتقرب إلى الله بتكفير أبي بكر وعمر وعثمان، وبقية الصحابة العظام، وينشره على موقعه؟!!! ولا أريد أن أغترف أكثر من هذه القطرة من ذلك المستنقع الوبيء. سوى أن أشير إلى دوره في تسهيل احتلال العراق، وشرعنة بقائه.
ليكن معلوماً للقارئ أنني أتحدث عن جهة ذات عنوان (إسلامي) لا علماني؛ فالمفترض أن لا تتكلم أو تتصرف إلا وفقاً لما يمليه عليها ذلك ذلك العنوان من التزام بمقررات الشرع وأحكام الشريعة. وبذلك تكون (متوافقة) مع نفسها، تحوز ثقة المراقب في دعواها، سليمة في موقفها أمام ربها، وفية بوعدها أمام جمهورها. فإن وجدت نفسها دون مستوى التحدي فلتعلن أنها تؤدي ما تقدر عليه مما لا يرقى بها إلى ذلك المستوى، ولتبتعد عن هذه الدعوى التي يقول الله فيها: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2). وإلا كان العلماني أسلم موقفاً، وأحرى ثقة؛ لأنه لم يستعمل الدين للوصول إلى غايته، ثم يخلعه عند عتبة بابها متى ما وصل إليها.
إن هذا الضعف، وذلك التفلت من الأحكام الشرعية نطق به أخيراً الأستاذ محمد أحمد الراشد في كتابه (نقض المنطق السلمي) آمل من الجمهور الإسلامي أن يقرأه بإمعان عسى أن ينتفع به.
أذكر ذلك جيداً
أذكر جيداً.... نعم أذكر..! ولن أنسى.. إلى ما شاء الله.
كان ذلك بعد صلاة العصر من يوم الجمعة (25/4/2003).. في مقر الحزب الإسلامي عندما كان في (النادي الترفيهي) في حي اليرموك قبل أن ينتقل إلى مقره الأخير.. وفي قاعة الاجتماعات المجاورة للبناية الرئيسة على يسار الداخل إليها بعد اجتياز الحديقة الفارهة الجميلة بين يديها..... أذكر ما رأيته وسمعته هناك..!
ومن شدة امتعاضي مما رأيت وسمعت، وتأثري به، وشعوري بالإحباط والأسى منه بقيت أربعين يوماً أفتش ولا أجد في يدي القوة أو الجرأة على تقييده في دفتر مذكراتي! حتى إذا انتهت أيام الحداد كتبت هذه الكلمات وأنا بعد لما أخلع ثياب السواد:
(منذ أكثر من شهر وأنا أراود القلم على الكتابة، ولكن نفسي لا تطاوعني! ماذا أكتب؟ إن لي نفساً أتعبتني! لا أقرأ شيئاً إلا وأحس أنني أعيشه وأتفاعل معه إلى حد أنني أحيانا أترك الكتاب وأنهي قراءة الموضوع كحل وحيد للخلاص من الألم! ولا أكتب عن حدث حتى يحضر أمامي مجسماً لأعيشه من جديد، أو أعاني منه عناءً آخر فوق عنائه!
وماذا أكتب..؟ الألم؟ الحزن؟ الهم الجاثم على الصدر لا يفارقه، والذي يتصاعد كلما رأيت رتلاً أمريكياً أو تذكرت أننا بلد محتل؟!
الجراح..؟ وأي الجراح؟ العامة أم الخاصة؟
هل تعلم؟! مرت بي أيام أربعون وأنا أحاول أن أكتب عن اللقاء الذي تم في مركز الحزب الإسلامي بين الدكتور محسن عبد الحميد وشيوخ المساجد، لكنني لا أستطيع! كان ذلك يوم الجمعة (25/4/2003) بعد صلاة العصر. كان اللقاء لقاء تعريف بالحزب، والحاضرون أغلبهم أئمة مساجد والكل من أهل السنة، وليس بيننا شيعي واحد لكن الدكتور محسن عبد الحميد سامحه الله تفوه بكلمات تزيد الجراح جراحاً!
أنا لا أدري ما هذا التسابق على إرضاء هؤلاء القوم بالحق وبالباطل؟! والله إن الأمر عجب!! ولو كانوا يرضون لكان هناك بعض العذر! ولو كانوا يستحقون، أو كان المدح بالحق لما غضبنا، أو وجدنا في أنفسنا مما يقال شيئاً: "الحزب مفتوح لأهل السنة وللشيعة، وكان تأسيس الحزب قد تم بموافقة الحوزة"! ثم ذكر بعض رموزها.. عبد الكريم الجزائري، محسن الحكيم، وذكر الخوئي وترحم على بعضهم!. وتطرق إلى العلاقة (الحميمة) بين علماء أهل السنة أيام زمان وبين علماء الشيعة، وذكر كيف أن الشيخ أمجد الزهاوي ومحمود الصواف كانوا إذا ذهبوا إلى النجف استقبلوا بحفاوة! لكنه لم يذكر في المقابل عالماً من الشيعة كان يقصد أولئك المشايخ أو يزوروهم! ثم عرج على المرجعية وأن الشيعة حافظوا على مرجعيتهم على عكس أهل السنة: لا مرجعية لهم بعد الشيخ أمجد الزهاوي. ثم قال: "يجب أن تكون لنا مرجعية مؤهلة لأن تجلس مع المرجعية الشيعية"! ثم قال: "من يجلس منا اليوم أمام المرجعية الشيعية، أهؤلاء الشباب؟"
وبلغ بي الأسى مبلغه وأنا أسمع هذه الكلمات المليئة بالهزيمة والمفعمة بالخذلان!
لم يكفنا ترقيع د. أحمد الكبيسي ومجاملاته المائعة في خطبته التي ألقاها في جامع أبي حنيفة في أول جمعة أقيمت بعد الاحتلال (في 18/4) حتى تأتي أنت يا دكتور محسن.. تزيد الطين بلَّة، والداء علة! متى نشفى من هذا الداء؟ وهل ينتصر مهزوم؟
وذهبت إلى بيت الدكتور محسن فلم أجده. وذهبت إلى مقر الحزب ثلاث مرات لم أتمكن فيها من اللقاء به سوى مرة واحدة بعد انتهاء الدوام، وكان الرجل متعباً جداً فاعتذر على أن نلتقي في مرة قادمة. 2/6/2003). وما التقينا بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق