جريدة الشرق الأوسط اللندنية 19 من رجب 1431هـ / أول يوليو 2010م
طمأن مصدر إيراني في العاصمة اللبنانية أصدقاءه الخلص، بمجرد أن بدأ الكلام عن تحضير سفينتين لبنانيتين لكسر الحصار على غزة في يونيو (حزيران) الفائت، إلى أنه لا خوف من عواقب لهذا الموضوع لأن الأمر سيبقى مجرد كلام إعلامي. وبحسب المصدر، فإن إيران شعرت بصدمة قوية وهي ترى الأعلام التركية تخفق كثيفة وعالية على الأراضي العربية بعد الاعتداء الإسرائيلي على «سفينة مرمرة»، ومقتل تسعة من الناشطين الأتراك، وكأنما باتت تركيا هي المنافح الأقوى عن القضية الفلسطينية. ويبدو أن الإيرانيين لم يجدوا أفضل من «مداواتها بالتي كانت هي الداء». ومقابل السفينة التركية، أعلن الإيرانيون وبشكل استعراضي عن إرسال سفينة إيرانية، لا بل وإشراك الحرس الثوري. وهذا يستدعي تذكر المثل القائل «كيف عرفت الكذبة؟ فأجاب الآخر من كبر حجمها». وكأنما لا بد لإيران من أن تكبّر وتبهّر حجم ونوعية تدخلها الإنساني وتدعمه بنكهة عسكرية، كي تتمكن من تخفيف فورة الحماسة العربية الشعبية تجاه المواقف التركية.
ولمن لا يتذكر، فإن الكلام على سفينة لبنانية تحمل صحافيين إلى غزة، جاء متزامنا مع خبر السفينة الإيرانية، ثم تبع ذلك كله خبر يصلح بالفعل لأن يصنع قنبلة إعلامية قوية الصدى، وهو إرسال سفينة نسائية إلى غزة أعطيت اسم «مريم». وبما أن لبنان هو أصلح الأمكنة لأي حملة «ماركيتنغ» تريد أن تطلقها، فقد استطاعت بالفعل سفينتا «ناجي العلي» المعدة للصحافيين، و«مريم» المخصصة للنساء، اللبنانيتان أن تتحولا، بمجرد الإعلان عنهما، إلى قضية تشغل الإعلام والرأي العام، بينما كان النضال التركي يتضاءل أمام دموع المغنية «مي حريري» وسيناريوهات الاعتقال الإسرائيلي، وكيفية مجابهتها التي تتحدث عنها سمر الحاج، وكلتاهما ناشطتان تستعدان للذهاب إلى غزة.
ومع الاحترام والتقدير الشديدين، لكل الناشطين، رجالا ونساء، الذين تطوعوا وتحمسوا بدافع إنساني ننحني أمامه إجلالا، للذهاب إلى غزة، يبدو أنهم وقعوا ضحية فخ ما. ولا ندعي هنا أننا نعرف كل خفايا ما يحدث، لكننا نعرف على الأقل، أن التصريحات التي كانت تصدر عن منظمي الرحلتين بدت متناقضة، وغريبة أحيانا، حد التساؤل عن مدى جدية انطلاق هذه الحملة.
فالسفينة الأولى التي تدعى «ناجي العلي» متوقفة على رصيف ميناء طرابلس منذ 20 يونيو (حزيران) ولا تزال، وبعد يوم من وصولها كنا نسأل الناطقة باسم حملة «سفينة مريم» عن موعد دخول سفينة النساء مرفأ طرابلس، فقالت حرفيا: «ما دمت في طرابلس بمقدورك أن تنظري من الشباك لتري أنها تدخل المرفأ الآن». وما زلت واقفة على الشباك منذ تسعة أيام ولم أر السفينة. بقي المنظمون يتحدثون عن ساعات متبقية لوصول سفينتهم التي أكدوا أنها موجودة، وكل كلام عن عدم وجودها هو تكسير لإرادتهم، حتى مضت الأيام، ونسي الناس قصة السفينتين اللتين تريدان أن تذهبا إلى غزة وتكسرا الحصار. وحين تسأل اليوم، العاملين في مرفأ طرابلس عن سفينة «ناجي العلي» المتوقفة في مينائهم، واجتذبت الكاميرات والصحافيين وكل وسائل الإعلام لحظة رسوها، لقالوا لك إنهم نسوا وجودها، وما عادوا يعرفون شيئا عنها.
ربما على النسيان، يراهن الكثيرون. وعلى الرغم من الفقاعات الإخبارية التي تطلقها إيران عن سفنها ونوابها الذاهبين إلى غزة، فالأرجح أن كل هذا سيبقى مجرد كلام لإبقاء الجمهورية الإسلامية حاضرة في الإعلام العربي، كمنافحة عن الحق الفلسطيني، إلا في حال تسيير سفن من جنسيات متعددة تشارك بمعيتها. فلا بد أن إيران تعقل جيدا أن إسرائيل تتحين فرصة للانتقام من مشروعها النووي، وليس من الحكمة أن تمنحها أي ذريعة للاعتداء عليها في الوقت الحالي. لكن يبدو أن الحكمة الإيرانية تقتضي أيضا أن لا يترك الأتراك وحدهم يتربعون على عرش القضية الفلسطينية، وعلى قلوب المتحمسين العرب لمن يحمل شعلة نضالهم.
وهكذا يبدو أن الساحة العربية هي مجرد ملعب فارغ، يتصارع على أرضه الإيرانيون مع الأتراك، في لعبة أقل ما يقال عنها إنها مهينة ومعيبة للعرب الذين يكتفون بدور المتفرج والمصفق السلبي، ويشجعون اللاعبين كما يفعلون أمام فرق كرة القدم في المونديال. فلا سفينة «ناجي العلي» يمكن أن تنطلق وحدها إلى غزة وهي لا تتسع سوى لثمانية ناشطين، ولا «سفينة مريم» أطلت برأسها، بينما لم يعد المنظمون يجدون ما يقولونه للصحافيين الذين يسألونهم عن حملتهم. وإذا كان ثمة ما يدمي القلب في كل هذه الخدع المأساوية، فهم أهالي غزة أنفسهم، الذين ما إن سمعوا عن اقتراب موعد انطلاق السفينتين اللبنانيتين، حتى خرجوا في تظاهرات بحرية يحملون الأعلام اللبنانية والفلسطينية، أمام كاميرات وكالات الأنباء العالمية تعبيرا عن فرحتهم بالتضامن العربي معهم. لكن، يبدو أنه لا يزال يتحتم على أهالي غزة أن ينتظروا طويلا، وطويلا جدا قبل أن ينبلج الفجر العربي ويبلغ شواطِئَهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق