2009/07/28

أوهام التقريب وزرقاء اليمامة


د. عمرو عبد الكريم : بتاريخ 28 - 7 - 2009
عاش قسم كبير من رموز الظاهرة الإسلامية على مدار أكثر من نصف قرن على أوهام فكرة التقريب بين السنة والشيعة، وبصرف النظر عن كثير من النوايا الحسنة التي كانت وراء تلك الدعوات، إلا أن تجارب الزمن ودروس التاريخ علمتنا أن ما تم من أنشطة ومجالات عمل لم تكن "تقريبًا" بالمعنى المعروف، وهو أن يقدم كل من الطرفين على خطوات ملموسة في سبيل إشاعة نوع من التفاهم والاطلاع على ثقافة الآخر وخلفياته العقائدية والتصوّرية ونظم حياته بما يزكي نوع من التعايش السلمي دون الدخول في صراعات مذهبية أو طائفية؛ إنما ما تم فعلا إنما هو تقريب من طرف واحد هو طرف السنّة حتى يمكن القول بيقين تام أن ما قدم هي تنازلات بلا ثمن، حتى قال الشيخ محب الدين الخطيب: (ومما لا ريب فيه أن الشيعة الإمامية هي التي لا ترضى بالتقريب، ولذلك ضَحّت وبذلت لنشر دعوة التقريب في ديارنا، وأبت وامتنعت أن يرتفع له صوت أوتخطي في سبيله أي خطوة في البلاد الشيعية).
ولعل هذا وراء رجوع كثير من دعاة التقريب عن مواقفهم وكشفهم لحقائق القوم وأن دعوات التقريب لا تعدو ممارسة عملية للتقّية ومحاولة مجاراة السنّة لكسب مساحات حركة أوسع وإزكاء نيران التسلل في الديار السنِّية.
أقول لعل هذا ما دفع كثير من علماء السنّة إلى التخلي عن أوهام فكرة التقريب بل وتصريحهم علنًا بما ينافيه رغم أنهم ساروا فيه ردحًا من الزمن عل القوم يحركون حكمهم علينا من نواصب كفّار أو مرتدين إلى مسلمين تجوز مآكلتهم ومشاركتهم ولا أقول مناكحتهم فالبون شاسع. (صحيح من حكم برِدّة جميع الصحابة ما عدا خمسة ماذا يفعل بالمسلمين من أهل زماننا؟).
وكان من أبرز الذين كشفوا زيف أوهام التقريب علاّمة الشام وعالمها الدكتور مصطفى السباعي، الذي كان موقفه مؤيدًا في كتابه "السنة النبوية" لكن لما تبين له عدم جدية الشيعة في عملية التقريب تراجع وأعلن ذلك.
وكذلك الشيخ سعيد حوى الذي اكتشف مكر القوم وخداعهم فعاد محذرًا الأمة في رسالته "الخمينية شذوذ في العقائد وشذوذ في المواقف". وهو ما فعل أيضا أبرز علماء السنّة المعاصرين فضيلة شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه وأمده بمدد من عنده وذلك عندما قال: "لقد أيدنا الثورة الإيرانية ضد الجبروت والاستبداد، غير أننا صُدِمنا عندما كشفت الثورة عن وجهها الطائفي ومساعيها للتمدد خارج الأراضي الإيرانية، والعمل علي تشييع السنّة في البلدان المجاورة".
وغير هؤلاء الثلاثة كثير من العلماء الذين فطنوا لمخاتلة القوم وخداعهم رغم سيرهم دربًا طويلا في مهاوي دعوة التقريب وأوهامها.
ولا زالت أمتنا تعيش مخاض صراع طويل ومرير مع دولة تريد أن تلعب اللعبة السياسية بمفاهيم دينية وتسعى حثيثًا لنشر مذهبها في كثير من بلدان العالم الإسلامي وحيث تختلط الأوراق وتتحول الأقليات المذهبية والعرقية والدينية إلى أوراق ضغط على طاولة المفاوضات للقبول بدور إقليمي معترف به وتسترجع أوهام شرطي المنطقة أو سياسات "الوكيل المعتمد" للتتحول المنطقة إلى رقعة شطرنج كبيرة يحرك كل طرف أدواته وعناصره بما يوسع مساحة دائرته ودوره. وأتصور أن ذلك كله امتداد لمشروعات "تصدير الثورة" في محاولة لتوظيف التشيع العقدي في خدمة التشيع السياسي؛ لكن هيهات.
ولا زال نفر من علماء أمتنا ورموزها الدينية والفكرية يرفعون لواء التحذير من النشر المنظم للتشيع واختراق البنية النفسية والدينية لمجتمعاتنا تحت وابل من العناصر المدعومة بأموال – إيرانية نظيفة كما اعترف حسن نصر الله نفسه في لبنان- وكفاءات بشرية مدرّبة ومعدة إعدادًا جيدًا على الجدال والملاحاة ومحاولة إفحام الخصوم والتسلل تحت دثار بعض الدعوات الصوفية وحب أل البيت الكرام المطهرين.
ولا زال هؤلاء النفر من أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض: فساد التشرذم السياسي وفساد الانقسام المذهبي وفساد إثارة الاحقاد والإحن وثارات التاريخ، يجاهدون على أهم ثغور الأمة المكشوفة وهي ثغرة التسلل الشيعي في ديار المسلمين من أهل السنة.
أقول: يجاهدون في سد تلك الثغرة رغم السعي الحثيث لذوي الأهداف والمصالح في لملمة الأمور ومحاولة تخطي العقبة الكؤود في طريقهم وهي وعي الأمة بأهدافهم ومصالحهم. إن هذا الفريق غفل – رغم زكاء كثير منهم – أن الأمة أعقل وأفهم لتجارب الزمن ودروس التاريخ من كثير ممن يسمون أنفسهم - أو تسمّيهم الألة الإعلامية الجهنمية التي تسلطت على عقول كثير من الناس – مفكرين إسلاميين.
وأحسب أننا وهذا الجناح الذي يرى مصلحته في مهادنة نظام ملالي إيران والتحالف معه – بل وفي قضية الشيعة والتشيع عمومًا- كزرقاء اليمامة مع قومها.
ورزقاء اليمامة شخصية عربية قديمة، لإمرأة من جديس من أهل اليمامة، وكانت تُبصر الشَعَرةَ البيضاء في اللبن، وتَنْظُر الراكب على مسيرة ثلاثة أيام (أي مسافة 100ميل تقريبًا) وهي أبصر خلق الله، لذلك ضُرِبَ بها المثل لمن كان بصره حادًا: أبْصَرْ من زرقاء اليمامة.
وكانت زرقاء اليمامة تُنذِر قومها الجُيوش إذا غَزَتهم، فلا يأتيهم جيشٌ إلا وقد استعدُّوا لهم، حتى احتال لها بعضُ مَن غزاهم، فأمر أصحابَه فقطعوا شجرًا وأمْسكوه أمامهم بأيديهم، ونظرت الزَرقاء، فقالت: إنِّي أرى الشجر قد أقبل إليكم؛ قالوا لها: قد خَرِفْت ورَقّ عقلُك وذَهَب بصرُك، فكذَّبوها، فصبَّحتهم الخيلُ، وأغارت عليهم. (القصة كما جاءت في العقد الفريد لابن عبد ربه).
ندرك الخطر من بعيد ونستشرف مستقبل أزمة في أوطاننا وبين شعوبنا وليس من الأمانة ولا الديانة ولا المروءة أن نغض الطرف إرضاء لأحد أو رهبة لأحد، ولن نكون كما قال أمل دنقل: قيل ليَ «اخرسْ..»
فخرستُ.. وعميت.. وائتممتُ بالخصيانْ!
فأمن مجتمعاتنا وسلامة دولنا من المفترض أن تكون عند ذوي العقول والحجا خط أحمر بل خطوط حمراء يحرم تجاوزها أو تعديها أو التهوين من شأنها أو التقليل من خطورة ما يحدق بها من تهديدات.
لقد أنذرت زرقاء اليمامة قومها لكنهم لم يسمعوا النصح بل اعتبروها مصدر إزعاج فثملوا أعينها حتى يستريحوا من إزعاج الإنذار المستمر لكن بعد أن صبّحهم جيش الأعداء عضو أصابع الندم لكن ولات حين مندم.
أليس ما يحدث في العراق نذير شؤم؟ أليس ما يدور في اليمن ينذر بالخطر؟ – حتى خطر تهديد وحدة اليمن ذاتها - والقوم من مكرهم ذبحونا بسيف وحدة الأمة التي غدت نوعًا من الابتزاز الديني والفكري والنفسي- أليس وضع الأقليات الشيعية في بلدان الخليج ينبئنا عن قابل الأيام ومخبوءها؟ أم علينا أن نسكت حتى نجد القوم بالتفاوض والترتيب مع شرطي العالم وبإذنه فوق رؤسنا يعربدون في شوارعنا ويهدمون مساجدنا. هل يجب أن نسكت حتى نجد ابن العلقمي المعاصر بالتحالف مع التتار الجدد أسياد ديارنا.
لقد رأت زرقاء اليمامة شجرًا يتحرّك، وكأنّه يمشي، فقالت لقومها:أرى شجرًا يمشي نحونا. ضحك منها الناس وسخروا، فقالت لهم: لعلّ وراء هذا الشّجر فرسانًا، فقالوا: لكن لقد أزعجتنا يا زرقاء وتريدي أن تكوني داعية فتنة مذهبية بين السنة والشيعة وتثيري أمر تصريحات العلامة القرضاوي عن خطر التمدد الشيعي مرة أخرى أو نخالك تستدركي على علمائنا أو تحسبي نفسك تفهمين أحسن من المفكرين الاسلامين الكبار: صحفيين ومحامين.
سبحانك ربي: حتى لو كانت مصالحهم طاغية وحساباتهم مدخولة وأولوياتهم مدسوسة.
ولكن كما يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني رحمه الله في كتابه الماتع بصائر المسلم المعاصر: إن شر الأمور ما اجتمع فيه الهوى والمصلحة.

ليست هناك تعليقات: