كان
تحرير الموصل وما جاورها من ربوع السنة ليلة الثلاثاء 12/شعبان 1435
الموافق لـ 10/حزيران 2014، وامتداد الموجة الجارفة حتى مشارف بغداد، فتحاً
باهراً بكل المقاييس، ونصراً عجيباً أذهل العدو والصديق والبعيد والقريب.
ولأن "الهزيمة يتيمة ولكن النصر له ألف أب" كما يروى عن نابليون، فإن هذا
الحدث أثار أنظار الكثيرين وجذبها قسراً نحو مأساة السنة المنسية، وأنطق
جموع الساكتين من الشيوخ والعلماء والسياسيين والمثقفين والنخب والدهماء
وقنوات الأرض والفضاء، واتجهت شهية الأطراف القريبة نحو ارتداء بزة القائد
الذي يضع الريشة على رأسه ويمر من تحت قوس النصر. وتساءل الجميع عن الجهة
التي تحقق على يدها هذا الإنجاز العظيم الذي اهتزت له الدنيا أجمعين!
لم
يبق سني مظلوم في المناطق المحررة إلا وكان يفتش عن قدميه هل ما زالتا على
الأرض من شدة الفرح؟ بعد أن انزاح عنهم كابوس لعين لم يخطر ببال أحد منهم
أنه سيتبدد بهذه السرعة (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر:2). ولم يبق سني في بقية
المناطق إلا وشاركهم ذلك الشعور وهو يتطلع إلى يوم كيومهم وخلاص كخلاصهم.
وترقبت يوم الجمعة فكانت حلقة (لقد نهض الأسد) على قناة (وصال) وعلى مدار
ساعتين في الحديث عن هذا الحدث العظيم الجميل. وقد كنت منذ سنين أتوعد
الشيعة بأن لا يغرهم ما يجدون من تباطؤ لدى أهل السنة؛ فهم كالأسد الرابض
له عادة سيئة إذ يظل ينظر بتكاسل وتثاؤب إلى ما حوله من ذئاب وضباع وخنازير
وبنات آوى، حتى إذا وجدها اخترقت المسموح نهض فتطايرت من حوله تلك
المخلوقات التي تجاوزت بغبائها أقدارها مذعورة لا تلوي على شيء.
ليس من خيار ثالث : الحقيقة أو الصمت
في
ليلة الفتح وما بعدها كنت أتواصل مع أصدقائي في الموصل، وكانوا يجمعون على
أن (الدولة الإسلامية في الشام والعراق) كانت رأس الحربة في القوة
المحررة، وإن شاركها آخرون لكن من باب الإسناد لا أكثر. وقد أظهر قادتها
مرونة كبيرة وتفهماً واضحاً للواقع، فطمأنوا الناس وانصرفوا، مع مراعاة
أعباء المعركة المحتدمة، إلى تنظيم إدارة المحافظة وتوفير الخدمات وإزالة
مخلفات المعارك. كانت أربعة أيام من التواصل كافية للتأكد من حقيقة ما
أسمع وأرى؛ وإذا وصل الأمر إلى هذه الدرجة فإن المسلم يكون بين خيارين لا
ثالث لهما: إما النطق بالحقيقة، وإن كرهها من كرهها، وإن خالفت حتى ما يرغب
المتكلم. وإما الصمت. وإلا كان شاهد زور والعياذ بالله. فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه.
ووالله ما شهدت إلا بما أعلم طول عمري، ولا أذكر أنني ترددت عن شهادة دعيت
إليها ما قدرت عليها. ولقد رزقني الله جل جلاله نفساً تأنف أن أنسب لها
قولاً مجرد قول ليس لها، فكيف ترضى لي أن أنسب لغيرها فعلاً هو ليس له! ثم
كيف نتطلع إلى موضع الصدارة ونحن عاجزون عن أداء تكليف الشهادة! والله
تعالى يقول: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
(البقرة:143). فذكرت تلك الحقيقة في الحلقة المذكورة بوضوح وصراحة، وأنا
أعرف دقة الموقف الذي أنا فيه.
ذكرت
مع فرحي المُسبَطِر أنني متفائل ولكن بحذر. ودعوت السلطة الجديدة إلى
مراعاة الواقع، وتأجيل إقامة الحدود إلا لضرورة بالغة، وأن هذا هو الموقف
الشرعي الذي عليه قامات علمية سامقة. كما نصحت بعدم إجبار الناس على رأي
مذهب مختلف فيه، وإلا كان ذلك مدعاة للتفرق والفشل؛ فالرأي المذهبي المظنون
ليس هو الدين المعصوم، الذي أوصى الله تعالى به فقال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ
وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13).
أنت مع ؟ أو ضد ؟
ومع
الارتياح الكبير الذي لاقته الحلقة من عامة الناس، فإنني وجدت آخرين نظروا
إلى كلامي بمقياس (أنت مع أو ضد)! مقياس ليس فيه إلا خطان: أبيض أو أسود.
تجاوزت كلمة الحق عندهم حدود الإنصاف فصارت مدحاً، وتجاوز المدح للشخص بما
فيه فصار المادح فيه ومنه وبه. مع أن الرجل: محبوباً كان أم مبغوضاً،
قريباً أم بعيداً، يمكن أن يمدح باعتبار ويذم باعتبار. لقد قال الله تعالى
عن كفار أهل الكتاب: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
ذَلِكَ) (آل عمران:75)، فمدَحَهم باعتبار وذمَّهم باعتبار، وليس في مدحه
دعوة للمسلمين لأن يكونوا منهم، وليس في مدح المسلم لنصراني بما فيه أنه
صار نصرانياً. لكن الأحاديين لهم شأن آخر: أنت مدحت (داعش) فأنت منها. مع
أن توجهي معروف ومنهجي مكتوب ومعروض للجميع. وصار البعض يزايد على أهل
العراق مستدلاً بما يحصل لأهل سوريا وكأن العراقيين لم يجر عليهم ما جرى
للسوريين قبل ذلك بتسع سنين! وكنا نتكلم معهم بالحقيقة فكنا نكلم جدراناً،
ويفلسفون الأمور بطريقة جعلتنا أمام واقع يقول: أنت في واد والأمة في واد،
حتى ذاقوا ما ذقنا، كشف الله عنا وعنهم ما هم فيه.
النظرة الأحادية
النظرة
الأحادية هي نظرة جزئية تركز على حركة واحدة من المشهد ثم تفسرها حسب ما
تتوهم أو ترغب، ضاربة عرض الحائط كل الحركات التي تنبض بها المساحة الكلية
للواقع المشهود؛ فهي نظرة عوراء منحازة. ثم إنها – لَلأسف! – عديمة
الإحساس، كما يبدو؛ فكثير من أهل الدول المستقرة ينظرون إلى الحدث من خلال
واقعهم فيقولون: (داعش) خطر علينا، فتكون المقارنة لديهم بين واقع مستقر
وواقع آخر مضطرب فيما لو وصل إليهم ذلك الخطر؛ إذن (داعش) خطر عليكم يا سنة
العراق! وينسَون أننا لا نفكر، ولا يمكن أن نفكر، بهذه الطريقة. فالمقارنة
عندنا مختلفة تماماً، إذ البديل المقارَن هو الواقع السيئ تحت حكم الشيعة
الذي ظلم وطغى، وسحق فما أبقى. فأي نظرة أحادية عوراء من ناقد منحاز يتفرج
عليّ إحدى عشرة سنة دون أن تهتز شعرة في جلده الناعم الرطيب!
نحن نملك عينين اثنتين لا عيناً واحدة أيها الأحاديون، ولسنا بلهاء إلى هذا الحد لنكون تبعاً لأفكار وأنظار، وضحية لمشاريع الآخرين!
وإذ
تمر الأمة بمخاض عسير في طريقنا نحو القيادة العالمية، نحتاج إلى تصحيح
النظر وتصويب الفكر؛ لأننا بناة حضارة، وموقعنا من الناس موقع الصدارة؛
وهذا لا يتحقق ما لم نكن قادرين على تجاوز النظرة الأحادية إلى النظرة
الريادية؛ فبها وحدها يمكن أن نؤسس للحكم العادل الرحيم القائم على إنصاف
الناس، دون النظر إلى العناوين مهما كانت، ونبني النموذج الرائد الذي يصلح
للاقتداء والاهتداء (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)
(البقرة:143).
نحن مع السنة كلهم على الشيعة كلهم
وحتى
يكون الرسول علينا شهيداً: واقعاً مشهوداً لا اعتقاداً مفروضاً فقط ينبغي
أن نُحكِّمه في شؤوننا كلها، ونستشهده عليها فإن شهد سلّمنا وإن نهى
انتهينا. وإليكم شهادة واحدة من شهاداته الربانية:
لقد
انتصر الفرس على الروم، فساء الصحابة ذلك من حيث أن الروم أهل كتاب فهم
أقرب إلى المسلمين من الفرس الذين لا كتاب لهم. ونزل الوحي يؤيد موقفهم
ويبشرهم بأن هذا النصر لن يدوم وأن الكرة على الفرس لن تطول أكثر من بضع
سنين: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ
بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
(الروم:1-5). أرأيت! بشارة وفرح بنصر روم نصارى على فرس مشركين، مع أنهم لم
يكونوا يحكمون مكة، ولكن لهم شبهاً – ولو من بعيد – بحكامها!
أرأيت!
ثم هل يقارن نصر الروم على الفرس بنصر أي جهة سنية - (الدولة الإسلامية)
فما سواها - على الشيعة؟! دعك من العول في مقارنة كافر بمسلم؟! هذا حكم
الله جل في علاه، وهذه شهادة رسوله عليه أفضل الصلاة.
لقد
نظر الصحابة إلى الحدث نظرة كلية لا أحادية؛ فرأوا فسطاطين: فسطاطاً
رومياً وفسطاطاً فارسياً؛ فكانوا مع الروم على الفرس. ونحن نظرنا إلى الحدث
نظرة كلية لا أحادية فرأينا فسطاطين: فسطاطاً عربياً سنياً وفسطاطاً
فارسياً شيعياً فكنا مع السنة على الشيعة.
المعركة
في العراق بين السنة بكلهم ضد الشيعة بكلهم. ونحن منساقون لأن نقف مع
السنة بكلهم ضد الشيعة بكلهم. هذا خيارنا.. ولا خيار لنا سواه.
---------------
الجمعة
20/6/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق