2009/08/13

البصمة الاجتماعية لأهل السنة وما يقابلها..مشهد يبحث عن عنوان 2


ربيع الحافظ (المصريون) : بتاريخ 12 - 8 - 2009
الحديث عن فروقات أنموذجي مجتمع في تركيا وإيران ليست قضية عواطف، وإن بدت كذلك، وإنما مفاهيم ونظريات ونظم، يقوم عليها مصير المنطقة، وينفرط بضياعها عقدها، وإذا كان في فم الأتراك ماء كثير، وهو واقع الحال، أو وقعت حقائق معركة القيم هذه ضمن محظورات قاموسهم السياسي، وهو واقع الحال أيضاً، فإن المشهد الاجتماعي التركي الذي غدا وسيلة إيضاح تعاينها شعوب المنطقة، لا يمكن أن يكون صامتاً، مجرداً من العناوين، بل ناطق، مبرز لمواطن القوة والضعف في النسيج الإقليمي، شارحاً لمقوماته ومعوقاته، منبهاً إلى المكائد؛ جذورها ومآلاتها، مشهد تكتب عناوينه بخط عريض، وتندرج تحتها شروحات مستفيضة، تنبثق عنها مؤلفات، ودراسات جامعية، ومن هذه العناوين:
"بضعة أعوام من أنموذج سياسي مقيد الأيدي، جزئي الحلول في تركيا، تكفي لإزاحة ثلاثة عقود عن القلوب والعقول من نظام المذهب الواحد، والحزب الواحد، والعرق الواحد، الذي تقوده ولاية الفقيه"
العامل الفاعل تحت هذا العنوان، هو أن السلوك العام للجماعة والفرد هو أولى الاعتبارات التي يوليها الرأي العام قبل تقرير علاقته مع فكرة سياسية ما، مهما كان المجتمع بسيطاً، فعناد قريش الفكري مع الدين الجديد كسره في أحايين عدة رصيد الرسول صلى الله عليه وسلم الأخلاقي قبل الرسالة، ثم شخصه صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، الذي وصفته عائشة رضي الله عنها بأنه كان "قرآناً يمشي على الأرض".
وعامل آخر تحت هذا العنوان، وهو أن شريحة "رجل الشارع" التي تمثل الأغلبية في كل مجتمع، تبني قناعاتها لا على أساس السماع والتلقين، وإنما على أساس المشاهدة، وهي قناعة ـ بحسب علم النفس ـ من شأنها الصمود والاستمرار، وهو ما حصل في شرق آسيا، حينما تغير كل شيء في المجتمع من دون سلطان سياسي، ودام كل شيء من دون حراسة أمنية، وهي حالة أقرب إلى المثالية والنظرية منها إلى الواقع.
المثال المعاكس للمثال الآسيوي هو الأنموذج القسري، الذي يتغير فيه المسار العقدي والمذهبي للمجتمع عبر ثورة دموية، كالتي قادها الصفويون في إيران، أو إمساك بمقاليد السلطة السياسية كما تحقق للعبيديون في مصر، وتقوم الدولة إثر ذلك بدور الحراسة البوليسية للمذهب الجديد. وما أن يزول النظام السياسي، ثم المحذور الأمني حتى يعتلي الناس أسطح المنازل، وينزلون إلى الطرقات ابتهاجاً، ويلهجون بشعارات مذهب الفطرة، كالتكبير، وتنزيه الخالق، والترضي عن الصحابة، وهو ما حصل في مصر لحظة انهيار النظام السياسي والأمني للدولة العبيدية، وآبت مصر اختيارياً إلى أهل السنة بعد زهاء قرنين، وكأن شيئاً لم يحدث، والمشهد قريب من مشهد أوربا الشرقية بعد انفلات القبضة الأمنية للنظم الشيوعية وزوال قشرتها الآيديولوجية.
أي أن الأنموذج القسري يمكن أن يمسك بالجغرافيا، لكنه لا يمسك بالتاريخ، وها نحن اليوم في القرن الخامس عشر الهجري، وقد ظهرت علامات الساعة الصغرى، ولا زال المذهب القسري الشيعي جيوب أقليات هنا وهناك، لا تنمو حتى تنكمش من جديد، ونموه وانكماشه هو باروميتر للحالة الصحية الثقافية للأمة بقراءة عكسية. ويعجز هذا المذهب ببعده عن فطرة الإنسان السليم عن تأسيس مجتمعات قادرة على البقاء، فضلاً عن أن تتسع للآخر، ويبقى أثره في السلم الاجتماعي للحضارة كالتجريفات التي يحدثها النهر في موسم الفيضان في شريط ضيق على طرفي المجرى.
"آيديولوجية الأقلية والمظلة الاجتماعية، مفهومان متضادان لا يجتمعان"
الأقلية في المفهوم الحضاري الإسلامي هي أقلية الذهن لا أقلية اللسان، وأقلية الفكر والمذهب لا أقلية العرق، الأقلية التي تعيش بموازاة المجتمع الكبير بثقافة وجدت بالأساس لإدارة وإدامة مجتمع منغلق، وتغذية سلوك غامز من الأغلبية، وندية مع الأقليات الأخرى.
هذه الأقليات تتقن فن المعارضة، لكنها تتآكل إذا ما بلغت الحكم، ولكونها أقلية عددية غير قادرة على النمو، فإن وسائلها في التغيير غير ذاتية على الدوام، فما سعت إلى إبدال الواقع السياسي قط إلا وجدت نفسها في تحالف مع قوة خارجية وملتقية معها في المصالح، وقد تحالفت إيران منذ وصول الولي الفقيه إلى الحكم مع قوى خارجية ضد جوارها المسلم في أفغانستان والعراق وأذربيجان أربع مرات في حيز ربع قرن من الزمان، وهي فترة زمنية تعد طرفة عين في عمر الأمم.
وفقاً لهذا المفهوم، فإن فترة التمكن السياسي ـ القصيرة ـ للأقليات تتحول لا محالة إلى صدام قيم ومفاهيم عنيف مع المحيط الكبير، كما الحال في العراق اليوم، وقبله في سوريا حيث الأقلية النصيرية الحاكمة التي أهّلها الاحتلال الفرنسي سياسياً، وهو نفس الشيء الذي يمكن أن يحدث إذا ما قامت الإمارة الحوثية في اليمن، أو المنطقة الشرقية في السعودية، أو أي جيب شيعي آخر.
الصدام الحتمي هذا نفسه يتكرر على نطاق إقليمي بين دولة الأقلية ـ كإيران بالنسبة للعالم الإسلامي ـ وبين المجتمعات الإسلامية الأخرى.
"مفهوم المذهب يتجاوز البعد الفقهي، ويتضمن نظريات اجتماعية"
يحمل المذهب الفقهي في كل دين البصمة الوراثية للبيئة السياسية والاجتماعية التي نشأ فيها، التي تنعكس على سلوك الفرد والجماعة فيه، ونظرته إلى باقي المجتمع، ونمط تعامله مع الغير، وعندما تتحدث أوربا العلمانية في القرن الواحد والعشرين عن البروتستانتية، فإنما تخص جانباً فيها هو المسؤول عن وضع أسس "العالم الجديد" النابض في الأمس، وتأسيس "العولمة" اليوم، وذلك في مقابل الجمود الكاثوليكي والمجتمعات المتكلسة التي أقامتها. وبالتالي فإن تراجع مفهوم المذهب عند أهل السنة، ووقوفه عند البعد الفقهي، هو حرمان للمجتمع من الخريطة الاجتماعية والنظم التي أقامت وأدارت على أساسها الحضارة العربية الإسلامية مجتمعات هي أفضل ما عرفته الإنسانية.
"لكل حضارة مدرسة أغلبية، تتوسط الطيف السياسي والعقدي، وتمثل صمام أمان للمجتمع"
ليس من قبيل المصادفة أن تفشل مذاهب ومدارس فكرية معينة في النمو العددي، وتبقى أبد الدهر أقليات عددية في زوايا المجتمع الكبير، فهي تعرض غلواً فكرياً، وشططاً سلوكياً ينأى بالأغلبية عنها، وتبقى هذه الأقليات "بارومتراً" للحالة الصحية الثقافية للمجتمع صعوداً ونزولاً وفي اتجاه معاكس.
"الأغلبية في مفهوم الحضارات نمط تفكير وليس إحصاءً سكانياً"
الأقلية والأكثرية في المفهوم الحضاري تعريف ثابت لا يخضع لتغيرات الجغرافيا السياسية، وإنما هو تصنيف "لسيكولوجية" (نفسية)، وحالة ذهنية، وسلوك اجتماعي، وإذا كانت سايكس - بيكو قد جزأت رقعة الحضارة العربية الإسلامية، وجعلت من الأقليات أكثريات عددية هنا وهناك، فإن هذا المفهوم لا يتجزأ. والحضارات لا تقودها الأقليات، وإنما تتسع هي للأقليات وخصوصياتها وأنماط حياتها، وللأغلبيات على الأقليات حق احترام مفاهيمها، فتكون بذلك جزءاً من نسيجها العام.
هذه العناوين وغيرها هي ما يكمن وراء الفارق بين الأنموذجين.
التدفق التركي على المنطقة العربية على شكل شركات وخبرات ستصاحبه نتائج إيجابية، وهو فرصة لمكونَي المنطقة الرئيسيين: العرب والأتراك، لإعادة اكتشاف أنفسهم بعد تباعد طويل. التوغل الاقتصادي التركي وحده ليس كافياً لإحداث التغيير الإقليمي المنشود، لكن النتائج المصاحبة له لا ينبغي أن تدون بعبارات مخنوقة، أو تبقى مجردة من عناوين تلملم مكاسبها المسكوبة على الأرض، بل إن مكانها الطبيعي هي في أقسام علوم الاجتماع التطبيقي، والتكامل الاجتماعي بين الشعوب المتجاورة، في المعاهد والجامعات، وهو التخصص الذي بذلت فيه أوربا جهوداً جبارة ومضنية على طريق بناء اتحاد بين شعوب متباينة ومتنافرة.
ومن يزر المكتبات في أوربا يرى كتباً ضخمة، وأطروحات جامعية، وبحوث ميدانية، أغدقت عليها الحكومات الأوربية أموالاً طائلة، حول سبل إيجاد نسيج اجتماعي إقليمي في هذه القارة. هذه الدراسات مستمرة لم تتوقف، حتى بعد إلغاء الحدود بين دول الاتحاد وتوحيد العملة، لأن البناء الاجتماعي كالخيمة المطاطية التي تنصب بطريقة النفخ بمنفاخ كهربائي يعمل بشكل مستمر، إذا توقف انكمشت وتهاوت.
أي أن الاتحاد الأوربي هو إنجاز إرادة سياسية بمسار اجتماعي، والمطلوب في منطقتنا اليوم هو صياغة نتائج إعادة اندمال وتكامل اجتماعي يحدث بطريقة عفوية بين شعوبها التي اقتطعت من عجينة ثقافية واجتماعية واحدة، بلغة يفهمها ويتفاعل معها السياسي ورجل الشارع على حد سواء.
قد لا تبدو هذه المطالب منسجمة كثيراً مع طبيعة النظم السياسية والمؤسسات الرسمية في هذا المكان من العالم، وهذا صحيح، لكنها متماهية مع طبيعة منظمات المجتمع المدني والقطاعات الشعبية والخيرية. هذه المنظمات لا تعذر في قعودها أمام هذه المطالب، وانكبابها على مشاريع مكرورة ليس فيها إبداع فكري، ولا رؤية استراتيجية، وتصب في جداول جانبية قبل أن تصل مستنفدة إلى المصب الرئيس.
لقد عرفت أمم الأرض أهل السنة بناة للمجتمعات، وأصحاب تركة اجتماعية ضخمة، لكنهم اليوم أكثر الأمم زهداً بالمفاهيم الاجتماعية وصدوداً عنها، وأفقرهم إنتاجاً في حقلها.
النسيج الاجتماعي هو آخر ما تفقده الأمم قبل الانهيار، وأول ما تسترجعه على طريق النهوض، وهذه المنطقة ـ الأكثر فسيفسائية في العالم ـ لم تصبح مهداً لأرحب وأرحم مجتمع عرفته الإنسانية بمحض صدفة، وإنما بالبصمة الاجتماعية لأهل السنة وتحت خيمتهم الكبيرة.
شعوب المنطقة ليس لها في هذه المحطة إلا أنفسها بعد الله تعالى، وعلى منظمات المجتمع المدني تقع مسؤولية إثراء المفاهيم الاجتماعية التي تصون مجتمعاتهم، وإفشائها في أوساط المجتمع، لتكون الخيوط التي يعاد بها حياكة نسيج إقليمي تتفكك عراه عروة عروة يوماً بعد آخر، وعلى هذه المنظمات أن تكون المغزل والنول في عملية إعادة الحياكة، إلى حين تتعافى فيه النظم السياسية في المنطقة، وتكون لديها رؤية وإرادة إقليمية، في بناء نسيج إقليمي.
alhafidh@hotmail.com
معهد المشرق العربي

ليست هناك تعليقات: